يعيش لبنان، والجنوب تحديدًا، تحت وقع اعتداءات إسرائيلية متكرّرة على القرى الجنوبية. الاعتداءات لم تقتصر على أهداف عسكرية، بل طالت الأحياء السكنية والمدنيين. مشهد أشدّ قسوة وأكثر وضوحاً من أي وقت مضى: طائرات إسرائيلية لا تترك قرية إلا وتستبيح سماءها، بما لا يسمح بالعودة وإعادة الإعمار في ظل استمرار الاحتلال. واقع أليم تتكرّر فصوله يومياً، ويثبّت أنّ العدو لا يتوقف عن ممارسة القتل والاقتلاع، ولا يحتاج إلى برهان جديد على إجرامه، فكل يوم يقدّم ألف دليل.
إلا أن الاكتفاء بتوصيف هذا الواقع، مهما كان صعباً، لا يكفي. فالأمر يتطلب نقلةً إلى مقاربةٍ عملية للمسؤوليات. فبعد عامين على الحرب، تَبرز ضرورةُ قراءةٍ منهجية لما جرى واستيعابِ استحقاقات الحاضر وما ينتظرنا. حتى الآن، لم يخُض المجتمع اللبناني عمومًا والجنوبي خصوصًا نقاشًا جدّيًا بحجم الكارثة: نحن أمام حربٍ مدمّرة على كلّ الصعد، وخساراتٍ مهولة، وتهجيرٍ واقتلاعٍ من الأرض. ومع ذلك، يستمرّ الصمت وتغيب المساءلة والمحاسبة. ما وقع ليس تفصيلًا عابرًا ولا “ثغرةً أمنية” قابلة للترميم كما يروّج البعض؛ بل يتبدّى بوصفه خسارةً انعطافيةً كبرى أصابت المشروع السياسي قبل العقيدة السياسية برمّته.
ما يحاول حزب الله ترويجه اليوم هو قراءة تُخفي أن واقع لبنان الجديد لم يولد بمعزل عن الحرب، بل هو ثمرة مباشرة لخياراتٍ عسكرية وسياسية اتُّخذت في إطارها. تحويل الأحداث الراهنة إلى قضايا داخلية منفصلة عن سياق الحرب ليس مجرّد تحوير للنقاش، بل محاولة لإلغاء أثر المقدمات التي ولّدت هذا الواقع، وإزاحة المسؤولية عن مُتّخِذي القرار الحقيقيين إلى مَحضَنٍ مدنيٍ ضعيفٍ لا يملك قرار السلاح ولا أداة الردع.
ولا ينبغي أن يُفهم من ذلك تبرئة أي إدارة أو مسؤول مدني من واجباته. الدولة لم تكن طرفاً في صناعة خطة الحرب أو اتخاذ قرار الانخراط العسكري في المواجهة، ولم تكن هي من وضع معادلات القتال في الميدان. وفي الوقت عينه، فإن مؤسسات الدولة اليوم مُطالبة بإدارة النتائج: تثبيت النازحين، تأمين المساعدات، واستكمال ترتيبات وقف الأعمال العدائية، والعمل على استعادة مقومات الدولة ومكانتها أمام الشركاء الدوليين. هذا التوازي يوضح أن مسؤولية الدولة تختلف عن مسؤولية من اتخذ خيار الحرب، لكنه في الوقت نفسه يضع على عاتق الدولة مهمة الإصلاح والتعويض وإعادة البناء.
لكن، بدل مواجهة نتائج الهجوم وما أفرزته الحرب على مستوى القدرة العسكرية والسياسية، لجأ حزب الله إلى ما يتقنه: تحويل النقاش إلى الداخل وصناعة عدوّ داخلي عبر التجييش الطائفي والحزبي، وكأن هنالك من يتربص داخلياً بالجماعة. الغضب يُوجَّه إلى رئيس الحكومة ومؤسسات الدولة، لا إلى الفاعل الخارجي. صمت رسمي مدروس يقابله صخب إعلامي من أذرع حزبية: صمت يخفي التردّد أو القرار، وضجيج يملأ الفراغ ويستبدل النقد الذاتي بالاتهام والإقصاء.
خلال الأسابيع الماضية، تحوّلت الأدوات الإعلامية المقرّبة من الحزب إلى منصّات للتشهير والتحريض. مقالات يومية تتهم نواف سلام بالتواطؤ أو بالعجز، برامج حوارية تُخصَّص لإدانته، وكتابات وتسجيلات تُبنى على فرضية أنه المسؤول عن كل قصف وكل شهيد. المفارقة أن قيادة الحزب، بلسان أمينه العام أو مسؤوليه، نادراً ما تدخل مباشرة في هذه الحملة. الصمت هنا ليس بريئًا: يُترك للإعلام وللأقلام الموالية أن تقوم بالمهمة، فيما يظل الحزب “منزهاً” عن التصريحات المباشرة. إنها المزاوجة بين التنصّل العلني والتحريض بالوكالة.
ليست هذه مجرد مهاترات إعلامية، بل استراتيجية متكاملة للهروب من أسئلة المحاسبة والمراجعة. بتحويل النقاش إلى داخل الوطن، يُبنى ستارٌ يُخفي فشل السياسات وخيارات الحرب، ويُطلب من الناس حماية سلاحٍ لا يقدم لهم خطة لحمايتهم أو لوقف الاعتداءات. والحقيقة الصعبة التي يُراد الهروب منها أن ما تبقّى من قوة حزبية عاجز عن حماية عناصره، فكيف له أن يضمن حماية الجنوب والبلد؟ الدولة -وليس السلاح لأجل السلاح- هي الإطار الوحيد القادر على تثبيت الناس، ومن دونها تبقى كل الوعود شعارات لا تُطعم ولا تُؤمّن ولا تُعيد للمنكوبين كرامتهم.
ثمة خدعة خطابية متكررة: “لا وقت للمحاسبة الآن، والعدو متربص”. هذا التأجيل المنهجي ليس بريئًا؛ فهو يكرّس مناخ الإفلات من المحاسبة بمعناها السياسي بالدرجة الأولى، ليس فقط عما جرى في السنتين الأخيرتين، بل عن كامل المسار في العقود الثلاثة الماضية. وبهذا تُبقي الخيارات الفاشلة من دون مساءلة فعلية، وتُمدَّد الأزمات بدل أن يُفتح الباب أمام مراجعة جدية وقرارات إصلاحية حقيقية.
نحن إذن أمام لعبة خطيرة: تشويه صورة رئيس الوزراء، ومن خلفه صورة الدولة، واستدعاء التخوين وإطالة أمد الانقسام. كل ذلك يعطّل التفكير النقدي، ويستنزف الطاقات بدل توحيدها لحماية المدنيين وحشد الدعم لإعادة الإعمار.
المسألة لم تعد مجرد انفصال عن الواقع، بل بلغت حدّ انعدام المسؤولية عمّا جرى وما قد يجري. فالحزب الذي يحرض ويخوّن بلا أي رادع لا يغادر الحكومة ولا يلتزم بقراراتها. وحتى لو تمكّن من الاحتفاظ بسلاحه وفرض أجندته الداخلية وتعطيل مؤسسات الدولة كما اعتاد طوال عقود، فلن يقود ذلك إلى تعديل حقيقي في ميزان القوى مع العدو، ولا إلى تحسين شروط العودة والإعمار أو إلى بناء أطر حماية واستقرار وطني فعّالة.
على حزب الله أن يقتنع بأن حجم التحديات والمتغيرات الناتجة عن الحرب أكبر من أن تُعالَج بردود فعلٍ ومناوشات إعلامية. هذه ليست لحظة لإنقاذ فصيل سياسي مهما بلغ مستوى تمثيله، بل لحظة تجميع وطني: انخراط كل اللبنانيين في مشروع الدولة بوصفها الإطار الوحيد القادر على مواجهة العدوان وحماية الناس واستعادة الكرامة.
الاعتراف بالحقيقة ليس خيارًا سياسيًا يخص حزبًا دون آخر، بل مسؤولية وطنية وتاريخية مشتركة. من دونه، يبقى لبنان أسير دوامة الخسارة، بلا حماية ولا إعمار ولا كرامة. الدولة وحدها هي الإطار الواقعي الممكن، وأي التفاف عليها لن يعني سوى المزيد من الانهيار. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يصبح الاعتراف بحجم الخسارة والجرأة على طرح الأسئلة مسؤولية وطنية وتاريخية، لا ترفًا فكريًا ولا شأناً حزبياً. لا خلاص من الهزائم والخسارات إلا بجرأة السؤال، وشجاعة الاعتراف، وحكمة التدبير.
