مساء عادي، حمل أحمد هاتفه وراح يقلب في حسابه التيكتوكي؛ هذه المنصة التي جعلت من المستجدات حلبة للأخبار المتسارعة، فما إن يحاول استيعاب خبر حتى
يصعقه آخر. وبدون أن ينتبه أخذ يدندن مع إعلان موسيقي يتكرر أمامه، فجأة وجد نفسه أمام كاميرا، ومؤثر يبتسم في وجهه: سوف تربح معنا جائزة شريطة أن تكمل الجملة الثانية من الإعلان….
في طريقه حاملًا معه جائزة، وفي غير العادة كانت الجائزة رقمية عبارة عن أسد، ظل يتأمل وجه الأسد متسائلًا هل حقًّا هذا الأسد يساوي 500 دولار؟”. في
تلك اللحظة، صار أحمد جزءًا من لعبة تسويقية تخفي إعلانًا وراء ستار من الترفيه، حيث لم يعد مجرد متفرج، بل متلقي مستدرَج إلى قلب البروباغندا.
لم يعد المتلقي اليوم مجرد قارئ صامت للجريدة، أو مشاهد عابر للنشرة المسائية، لقد تغيّر دوره مع تغير الزمن، وأصبح قادرًا على مشاركة المحتوى وإعادة
إنتاجه بضغطة زر، ومع ذلك يظل أسير ما يقدمه الإعلام تحت لافتة “الموضوعية”. نسمع دائمًا العبارة الشهيرة: “الخبر مقدس والتعليق حر”، لكن هل الأمر فعلًا كذلك؟ أي خبر يصل إلينا يكون قد مرّ عبر زوايا اختيار وصياغة وانتقاء، ليصلنا كصورة واحدة من واقع متعدد.
وهنا، يجد المتلقي نفسه في مواجهة سؤال صعب: هل يصدق ما أمامه بوصفه حقيقة صافية، أم يتوجس من احتمال وجود توجيه خفي يختبئ خلف الكلمات والصور؟
ومع هذا الالتباس، يدخل عامل آخر يزيد الأمر تعقيدًا: البروباغندا وتعني الدعاية أو الترويج أو التبشير، أي نشر المعلومات بطريقة مُوجهة من وجهة نظر واحدة، بهدف التأثير على آراء أو سلوك أكبر عدد من الأشخاص، وهي مضادة للموضوعية في تقديم المعلومات، والبروباغندا في معنى مبسط، هي عرض المعلومات بهدف التأثير على المتلقي المستهدف.
وكثيرًا ما تعتمد على إعطاء معلومات ناقصة، وبذلك يتم تقديم معلومات كاذبة عن طريق الامتناع عن تقديم المعلومات كاملة، وبذلك تقوم بالتأثير على الأشخاص
المستهدفين عاطفيًّا بهدف تحقيق هدف محدد، فهي سياسيًّا تعني الترويج، واقتصاديًّا تعني الدعاية ودينيًّا تعني التبشير.
لم تعد البروباغندا مجرد مفهوم يُذكر في كتب الإعلام، بل صارت تمارس علينا بذكاء عبر كل وسيلة نتابعها، قد تُقدَّم لنا على شكل خبر عاجل، أو تقرير
يبدو عاديًا، أو حتى فيديو قصير يتنكر في هيئة ترفيهية، نحن نستهلك المحتوى وكأننا أحرار في اختياراتنا، بينما هناك من يحاول أن يوجّهنا دون أن نشعر. وهنا يصبح المتلقي أمام ضغط خفي: هل هو فعلًا يختار ما يشاهد ويصدق، أم أن خيوط اللعبة تُسحب من وراء الستار؟
هذه اللعبة الإعلامية ليست وليدة اليوم، فقد عشنا تجلياتها بوضوح خلال جائحة كورونا، حين كانت القنوات ووسائل الإعلام تحدد بوصلة النقاش العام، أي أرقام تُبرَز وأي
معطيات تُخفى، أي رواية يُسلَّط عليها الضوء وأي تساؤلات تُدفن في الهامش. كان العالم يعيش حالة طوارئ صحية، لكن صورة تلك الحالة اختلفت من شاشة إلى أخرى، ومن منصة إلى أخرى، وكأن الحقيقة نفسها أصبحت نسبية.
اليوم، يستمر المشهد بصورة أكثر مراوغة، حيث تُصنع “الترندات” بعناية: أخبار تافهة تُضخَّم حتى تملأ الشاشات، بينما أخبار مأساوية عن لبنان، السودان،
واليمن، وغزّة تمرّ وكأنها لم تحدث، هنا يتضح أن غياب الإشارة لا يعني غياب الحدث، بل يعني غياب الإرادة في أن يعرفه الناس.
غير أنّ البروباغندا ليست بالضرورة سلبية دائمًا، إذ يمكن أن تتحول إلى أداة مقاومة، فقد برز ذلك بوضوح خلال العدوان الأخير على غزة، حين تحولت وسائل التواصل الاجتماعي
إلى منصة عالمية لكشف جرائم الحرب ونقل قصص الضحايا، حيث لم تفلح محاولات التعتيم في إخفاء الحقيقة، هذه الصور والفيديوهات أشعلت موجة من التضامن العالمي، فامتلأت شوارع المدن بالمظاهرات، وارتفعت أصوات الطلبة في الجامعات دفاعًا عن فلسطين، هنا غدت البروباغندا شكلًا
من أشكال المقاومة، وأداة ضغط أخلاقي وسياسي على مراكز القرار.
إضافة إلى كل ما سبق، لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه الحكومات في التحكم بالإعلام، فالعديد من القنوات والمؤسسات الإعلامية تملك خطًا تحريريًّا محددًا
ينسجم مع سياسات الدولة أو أجندتها، ما يعني أن الأخبار تُنتقَى وتُعرض وفق رؤية مسبقة.
هنا يصبح المتلقي الذي يعتمد على مصدر واحد للأخبار في وضعية حرجة، إذ يشبه إلى حد كبير شخصًا محبوسًا داخل صندوق يرى ما يُسمح له برؤيته فقط، ويتلقّى معلومات محدودة
وموجهة، دون أن يمتلك أدوات أو مساحة لمقارنة الحقائق أو الاطلاع على وجهات نظر أخرى، هذه السيطرة تجعل من الصعب على المتلقي العادي التمييز بين ما هو حقيقة وما هو توجيه أو تضليل، ما يضاعف أهمية الوعي الإعلامي والبحث عن مصادر متعددة، ومن هنا تبرز ضرورة محو الأمية
الإعلامية والمعلوماتية، والعمل على إدماجها في الأنظمة التعليمية، حتى يتمكن الأفراد منذ سن مبكرة من تنمية قدراتهم النقدية وفهم آليات اشتغال الإعلام وأساليبه في التأثير.
لكن كل هذا لا يعني أن المتلقي عاجز، فبإمكانه تطوير أدوات تمكنه من التمييز بين الحقيقة والمحتوى الموجّه: الوعي الرقمي لفهم عمل الخوارزميات، النقد الإعلامي والبحث عن مصادر متعددة، تطوير مهارات القراءة النقدية وطرح التساؤلات حول ما يراه، وأخيرًا استخدام أدوات التحقق من صحة الأخبار والصور والفيديوهات، بهذه الطريقة يصبح المتلقي فاعلًا وواعيًّا بدل أن يكون هدفًا للتوجيه أو التلاعب الإعلامي.
