الفوضى الخلّاقة وإعادة تشكيل الهوية اللبنانية

بين داخل مأزوم وخارج متربّص، تتكشف هشاشة البنية السياسية والاجتماعية اللبنانية. وفي هذا السياق تبرز أحداث رمزية تحمل دلالات عميقة تتجاوز حدودها المباشرة. ما شهدته العاصمة بيروت مؤخرًا من إضاءة صور لفاعلين سياسيين وأمنيين غير رسميين على “صخرة الروشة”، وما أثارته من جدل واسع في مشهد سياسي متشظٍّ، لم يكن مجرّد تفصيل عابر، بل تحوّل إلى رسالة رمزية–سياسية في لحظة مفصلية من تاريخ لبنان. ويمكن مقاربة هذه الظاهرة في إطار ديناميات ما يُعرف بـ”الفوضى الخلّاقة”.

الفوضى الخلّاقة في المشهد اللبناني

تعود عبارة “الفوضى الخلّاقة” إلى الأدبيات السياسية التي تصف حالة تُصنع فيها الأزمات أو تُترك لتتفاقم بحيث تؤدي إلى انهيار البنى القائمة وإعادة تشكيل واقع جديد يخدم مصالح أو توجهات محدّدة.

في لبنان، حيث تعيش البلاد أزمة بنيوية شاملة وتقوم على توازنات طائفية دقيقة، يتحوّل هذا المفهوم إلى وصف دقيق لما يجري: فكل أزمة سياسية أو اقتصادية أو أمنية تحمل في طياتها إمّا إعادة تركيب للتوازن، أو تعميقًا لحدة التشظّي. وتبدو الساحة اللبنانية كأنها مساحة مفتوحة لإدارة الرموز والنزاعات والتحولات ضمن سياق من الفوضى المنظمة.

صخرة الروشة: من رمز وطني جامع إلى ساحة تجاذب رمزي

لطالما ارتبط هذا المعلم الطبيعي، الذي يُعدّ رمزًا سياحيًا ووطنيًا في بيروت، بصورة لبنان في الوعي الجماعي كمساحة جامعة تتجاوز الانقسامات، ووجهة للمقيمين والزوار على حد سواء. غير أنّ اختيارها لعرض صورة ذات طابع سياسي وأمني يسلّط الضوء على طبيعة الفضاء العام في لبنان، الذي طالما كان ساحة للتعبير والتجاذب الرمزي، من الشعارات واللافتات الانتخابية إلى الجداريات والهتافات. بهذا المعنى، تنتقل الروشة من كونها رمزًا وطنيًا مشتركًا إلى واجهة تعبّر عن قوة معينة أو خطاب محدّد، ما يفتح باب النقاش حول طبيعة الرموز العامة: هل تبقى ملكًا جماعيًا للناس والدولة، أم تتحوّل أحيانًا إلى منبر تعكس عبره القوى الفاعلة حضورها؟

1. الرمزية والإعلام

إضاءة صخرة الروشة بصورة ذات طابع سياسي، أظهرت كيف يمكن للرموز والمعالم الوطنية أن تتحوّل إلى مساحة للتعبير عن هويات ورؤى متباينة. هذا الفعل الرمزي، بما أثاره من جدل واسع على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، كشف الحساسية الكبيرة المرتبطة بالرموز الوطنية ودورها في تشكيل الوعي الجمعي. أما الانقسام في ردود الفعل، فلم يكن سوى انعكاس للتنوع القائم داخل المجتمع اللبناني وتعدد قراءاته للرموز العامة.

2. البعد السياسي

الجدل الذي رافق الحادثة كشف عن انقسام واضح: فبينما اعتبرها البعض انتقاصًا من سيادة الدولة وتعبيرًا عن عجزها في ضبط الفضاء العام، رأى آخرون أنّها انعكاس لمحدودية قدرة المؤسسات الرسمية أمام القوى غير الرسمية. غياب موقف رسمي حاسم عزّز هذا النقاش وأعاد طرح مسألة الشرعية في لبنان: هل تستند فقط إلى سلطة الدولة، أم أنها موزّعة بين فاعلين متعدّدين في الساحة الوطنية؟

3. الانعكاسات الداخلية والخارجية

على المستوى الداخلي، أعادت الحادثة إبراز الانقسام القائم حول هوية لبنان ورموزه. فبينما رآها البعض جزءًا من المشهد السياسي الطبيعي في بلد متعدد الولاءات، اعتبرها آخرون مؤشرًا على غياب المرجعية الوطنية الجامعة. أما خارجيًا، فقد شكّلت الحادثة إشارة إضافية إلى هشاشة مؤسسات الدولة أمام ديناميات المجتمع والقوى الفاعلة فيه.

4. بين الفوضى وإعادة تشكيل الهوية

تكشف المشهدية من زاوية تحليلية كيف تتحوّل الرموز الوطنية إلى أدوات في التفاعل السياسي والاجتماعي. فالتحكم بالفضاءات العامة لا يقتصر على البعد الجمالي أو التراثي، بل يلامس إعادة تشكيل الهوية الجماعية وتوزيع الشرعية داخل المجتمع. وهذا ما ينسجم مع مفهوم “الفوضى الخلّاقة”، حيث لا يُنظر إلى الفوضى بالضرورة بوصفها تهديدًا فقط، بل كحالة انتقالية قد تحمل فرصًا لإعادة التفكير في العقد الاجتماعي والرمزي للبنان إذا ما أُحسن استثمارها.

الخاتمة

إنّ إضاءة صخرة الروشة بصورة شخصية سياسية–أمنية محورية لم تكن تفصيلًا عابرًا ولا مجرّد فعل رمزي، بل مرآة تعكس عمق الأزمة البنيوية في لبنان: ضعف الدولة، قوة الأحزاب، وانقسام المجتمع حول هوية الوطن. فهي مثال حيّ على كيفية تفاعل مفهوم الفوضى الخلّاقة مع الواقع اللبناني، حيث تُستثمر الرموز لإعادة إنتاج الانقسام وتعميق الشرخ بين المكونات.ويضع هذا المشهد لبنان أمام تساؤلات حاسمة: هل سيتمكن من استعادة رموزه الوطنية كمساحة جامعة للهوية، وتوجيه الفوضى في اتجاه البناء والتماسك، أم أن هذه الرموز ستظل رهينة لصراعات القوى الداخلية والخارجية في بلد باتت هويته نفسها ساحة فوضى مستمرة؟