لم يكن علم الجيوبولتيك يومًا مجرد دراسة جامدة للعلاقة بين الجغرافيا والسياسة، بل كان دائمًا انعكاسًا حيًا لصراع القوى الكبرى على مفاصل السيطرة في العالم. فمنذ أن خطّ هالفوردماكندر نظريته حول قلب العالم، مرورًا بسبايكمان ونظريته حول حافة البحار، وصولًا إلى مفاهيم السيطرة البحرية التي أبدعها ماهان، ارتبطت الهيمنة السياسية بالتحكم في عقد الاختناق الجغرافية. هذه العقد تمثلت لعقود طويلة في المضائق البحرية والممرات الاستراتيجية التي تحدد مسارات التجارة العالمية وموازين القوة العسكرية. غير أن التحولات التكنولوجية الكبرى، من الطيران إلى الفضاء، أخذت تدفع بالمجال السياسي نحو أفق جديد، حيث لم تعد اليابسة والمياه وحدها تحدد مستقبل السلطة، بل صارت المدارات والفراغات الكونية تدخل في معادلة القوة. هنا نشهد ولادة مفهوم جديد: الجيوأستروبوليتيك، أي السياسة المرتبطة بالجغرافيا الفضائية وما يتضمنه من مواقع استراتيجية باتت تشبه في قيمتها مضائق البحار، لكن في بعد كوني يتجاوز الأرض.
لقد عاشت البشرية قرونًا وهي تدرك أن المضائق البحرية مثل هرمز وملقا وجبل طارق والسويس ليست مجرد ممرات جغرافية، بل مفاتيح السيطرة على النظام الدولي. من يسيطر على هرمز يسيطر على نفط الخليج، ومن يهيمن على ملقا يملك خنق التجارة بين آسيا وأوروبا، ومن يفرض نفوذه على السويس يحدد إيقاع حركة التجارة بين الشرق والغرب. هذه العقد الجغرافية لم تكن نقاطًا معزولة، بل كانت أدوات في يد الإمبراطوريات لرسم ميزان القوى العالمي. لكن الفضاء، منذ منتصف القرن العشرين، أخذ يتحول إلى جغرافيا جديدة للصراع، ومع تسارع سباق التسلح الفضائي، وازدياد الاعتماد على الأقمار الصناعية للاتصالات والملاحة والاقتصاد، لم يعد الفضاء مجرد ساحة جانبية بل صار مسرحًا حاسمًا للصراع الكوني.
في هذا السياق برزت نقاط لاغرانج بوصفها أحد أبرز المواقع الاستراتيجية في الفضاء. هذه النقاط التي اكتشفها عالم الرياضيات جوزيف لاغرانج تمثل مواقع توازن في الجاذبية بين الأرض والشمس أو الأرض والقمر، حيث يمكن لجسم أن يبقى شبه ثابت دون استهلاك كبير للطاقة. ما يبدو في البداية معادلة فيزيائية مجردة يتحول في الواقع إلى عقد اختناق كونية بالغة الأهمية. فالنقطة L1 مثلًا بين الأرض والشمس تتيح مراقبة الرياح الشمسية والتحذير المبكر من العواصف الكهرومغناطيسية، بينما L2 خلف الأرض تشكل موقعًا مثاليًا للتلسكوبات الضخمة مثل جيمس ويب، وتسمح بمراقبة عميقة للكون بعيدًا عن التشويش الأرضي. أما L4 وL5، الواقعتان في مثلثات مستقرة مع الأرض والقمر، فهما نقاط مرشحة لأن تتحول إلى قواعد مستقبلية للاستيطان أو مراكز عسكرية متقدمة. هذه المواقع ليست مجرد فضاء، بل تشبه في جوهرها قناة السويس أو مضيق جبل طارق، مع فارق أن السيطرة عليها تمنح من يمتلكها قدرة غير مسبوقة على التحكم في الأرض كلها من خارجها.
من هنا يمكن القول إننا نشهد تحوّلًا من السيطرة على الأرض إلى السيطرة على المدارات. المدار الأرضي المنخفض أصبح مزدحمًا بآلاف الأقمار الصناعية التي تؤدي أدوارًا عسكرية وتجارية ومعلوماتية، والمدار المتوسط والعالي يضم أقمارًا للملاحة والاتصالات، أما نقاط لاغرانج فتمثل المستوى الأعلى من السيطرة، حيث يمكن وضع محطات دائمة تتحكم في تدفق المعلومات والطاقة وحتى استراتيجيات الردع. إذا كان البحر قد أعطى الإمبراطوريات السابقة قوة بحرية تحدد مكانتها، فإن الفضاء يمنح القوى الكبرى اليوم قوة فضائية هي التي ستحدد شكل النظام الدولي المقبل. السيطرة على الأقمار الصناعية تعني التحكم في الإنترنت، في الملاحة العالمية، في أنظمة المصارف، في الطائرات المدنية، بل وحتى في القدرات العسكرية عبر شبكات القيادة والسيطرة. وهنا تكمن خطورة المضائق الكونية، إذ أن من يسيطر على نقاط لاغرانج يمكن أن يحرم خصومه من كل هذه الامتيازات بضغطة زر أو بقرار عسكري، تمامًا كما كان إغلاق مضيق السويس في خمسينات القرن الماضي قادرا على تغيير موازين الاقتصاد العالمي.
لكن الفضاء لا يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل يشكل أيضًا بوابة لاقتصاد مستقبلي يتجاوز في حجمه البحار والمحيطات. الأقمار الصناعية اليوم باتت العمود الفقري للاقتصاد الرقمي العالمي، من البث التلفزيوني إلى الإنترنت والملاحة الجوية والبحرية. فوق ذلك، تبرز مشاريع الطاقة الشمسية الفضائية التي تسعى إلى جمع الطاقة من الفضاء ونقلها إلى الأرض، وهي مشاريع إذا نُفذت فإنها ستمنح السيطرة على L1 مثلًا قيمة استراتيجية شبيهة بالتحكم في منابع النفط. أما الكويكبات التي تحتوي على معادن نادرة بكميات هائلة، فإن استغلالها سيجعل من نقاط لاغرانج موانئ فضائية رئيسية لتجارة المعادن الكونية. نحن إذن أمام تحول من “الجغرافيا السياسية للأرض” إلى “الجغرافيا السياسية للفضاء”، حيث يصبح المضيق الكوني أهم من المضيق البحري، والقاعدة المدارية أهم من القاعدة البحرية.
إن مفهوم الردع ذاته يدخل في مرحلة جديدة. ففي الحرب الباردة ارتبط الردع بالقوة النووية، أما في القرن الحادي والعشرين فقد يتبلور ما يمكن تسميته بالردع فوق المداري، أي القدرة على تهديد الخصم بحرمانه من الوصول إلى نقاط لاغرانج أو استخدام المدارات العليا. هذا النوع من الردع سيعني ببساطة أن القوة التي تسيطر على هذه النقاط تمتلك اليد العليا ليس فقط في الحرب، بل في السلم أيضًا، لأنها قادرة على التحكم في تدفق المعلومات والطاقة. وهنا يطرح السؤال: هل سنشهد مستقبلًا حصارًا فضائيًا كما شهدنا حصارًا بحريًا؟ وهل يمكن أن تتحول LagrangePoints إلى ما يشبه قناة السويس أو مضيق هرمز لكن في بعد كوني؟
سباق القوى الكبرى يعكس بالفعل هذه التوجهات. الولايات المتحدة عبر برامجها مثل “أرتيميس” تسعى إلى احتكار السيطرة على القمر ونقاطه المدارية، في حين تتحرك الصين بقوة لبناء قاعدة قمرية ومشاريع لاستغلال الموارد الفضائية. روسيا، رغم تحدياتها، تبحث عن شراكات مع الصين لتأمين مكانها في النظام الفضائي الجديد. أوروبا والهند واليابان تحاول رسم موقعها بين هذه القوى، بينما تظل الدول الصغرى معرضة للتهميش إذا ما احتكرت القوى الكبرى المضائق الكونية. من هنا تظهر دعوات لتدويل الفضاء وضمان حق الوصول المفتوح، لكن المنطق الاستراتيجي يشير إلى أن القوى الكبرى لن تتخلى بسهولة عن فرصة السيطرة على مفاتيح النظامالكوني.
إن الخلاصة الجوهرية تكمن في أن المضائق الكونية ستصبح المفاتيح الحقيقية للنظام الدولي القادم. كما رسمت المضائق البحرية خريطة القرن العشرين، سترسم نقاط لاغرانج خريطة القرن الحادي والعشرين. من يسيطر عليها لا يسيطر فقط على الفضاء، بل يفرض قواعد جديدة للسيادة والردع والتجارة، ويملك قدرة على التحكم بمستقبل البشرية ذاتها. إن لاغرانجيات الفضاء ليست مجرد حلول رياضية، بل هي جغرافيا استراتيجية ستحدد مصير القوى العظمى. الانتقال من الجيوبولتيك إلى الجيوأستروبوليتيكإذن ليس تحولًا في المصطلحات، بل هو انتقال في بنية النظام الدولي نحو عصر جديد، حيث السماء لم تعد سقفًا بل صارت ساحة الصراع، والمضائق لم تعد بحرية بل صارت كونية، ومن يسيطر عليها قد يفرض نفسه سيدًا للنظام الكوني القادم.
