المجتمع المعلوماتي بين التفوق الحضاري والإمبريالية الرقمية: مراجعة لرؤى توفلر

حين كتب ألفين توفلر عن الموجة الثالثة في نهاية القرن العشرين، كان يستشرف تحولات كبرى تعصف بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم. لم يعد الإنتاج الزراعي أو الصناعي وحده المحدد الرئيس لمكانة الدول والشعوب، بل غدت المعلومة هي رأس المال الجديد، والقدرة على جمعها ومعالجتها وتوظيفها باتت توازي في أهميتها امتلاك النفط أو السيطرة على الممرات البحرية.

هذا التحول الذي أطلق عليه توفلر اسم “المجتمع المعلوماتي” مثّل في بداياته وعدًا حضاريًا بالانتقال إلى مرحلة أكثر إنسانية، يتشارك فيها البشر المعرفة والابتكار، وتذوب فيها الحواجز الجغرافية لصالح فضاء مفتوح أمام العقل والإبداع. لكنّ التاريخ لم يمضِ في هذا المسار المثالي بالكامل؛ إذ تحولت المعلومات ذاتها إلى أداة هيمنة جديدة، وشهد العالم نشوء ما يمكن تسميته بـ الإمبريالية الرقمية، حيث تحتكر القوى الكبرى والشركات العملاقة تدفق البيانات وتتحكم بمسارات الفضاء السيبراني العالمي.

من هنا تبرز الإشكالية: هل مثّل المجتمع المعلوماتي بالفعل قفزة في التفوق الحضاري الإنساني كما تنبأ توفلر، أم أنه انزلق ليصبح غطاءً جديدًا لإعادة إنتاج الهيمنة بصيغ رقمية؟

أولاً: توفلر والمجتمع المعلوماتي – من الموجة الثالثة إلى سيادة المعرفة

رأى توفلر أن البشرية مرت بثلاث موجات كبرى: الأولى زراعية جعلت الأرض محور الإنتاج، والثانية صناعية جعلت الآلة أساس القوة، والثالثة معلوماتية جعلت المعرفة والمعلومة المورد الأهم.

في المجتمع المعلوماتي، تصبح المعلومة ذات طابع مزدوج: مورد اقتصادي، وسلاح استراتيجي في الوقت نفسه. فالمؤسسات والدول التي تسيطر على المعلومات، إنتاجًا وتوزيعًا وتحليلاً، تتحكم في مسار التقدم العالمي.

لكنّ الأهم في رؤية توفلر أن هذا المجتمع المعلوماتي لم يكن مجرد بنية اقتصادية، بل كان مشروعًا حضاريًا يعيد تعريف السلطة نفسها. لم يعد التفوق قائمًا فقط على السيطرة العسكرية أو الاقتصادية التقليدية، بل على القدرة على إدارة المعرفة وتدفقها، أي السيطرة على “الرموز” بدلًا من السيطرة على “الموارد“.

ثانياً: التفوق الحضاري في ضوء المجتمع المعلوماتي

أفرزت المعلوماتية تحولات عميقة في معادلة التفوق الحضاري. فمن الناحية الاقتصادية، ظهر اقتصاد المعرفة الذي يقوم على البرمجيات، والابتكار، والبيانات الضخمة، والشبكات الذكية. هذا الاقتصاد جعل من دول صغيرة المساحة أو قليلة الموارد المادية مثل سنغافورة أو إستونيا قوى مؤثرة في الحقول التكنولوجية، وهو ما يثبت أن المعلومة قد تعادل النفط أو تتفوق عليه.

أما عسكريًا، فقد تجسد التفوق في الانتقال إلى الحرب الشبكية، حيث لا يعود النصر مرهونًا بعدد الدبابات أو الطائرات، بل بقدرة الجيوش على التحكم في نظم القيادة والسيطرة والاتصالات والاستطلاع. وقد مثّلت ثورة الشؤون العسكرية (RMA) تطبيقًا مباشرًا لروح الموجة الثالثة.

وفي الحقل السياسي والمجتمعي، أوجد المجتمع المعلوماتي إمكانات جديدة للديمقراطية الرقمية، والمشاركة الشعبية عبر الفضاء الافتراضي، وكسر احتكار الدولة للمعلومة. وهنا برزت الوعود الطوباوية بالتواصل العالمي المفتوح، وقيام حضارة أكثر عدلاً وشفافية.

ثالثاً: الإمبريالية الرقمية – الوجه المظلم للمجتمع المعلوماتي

لكن هذه الوعود لم تتحقق على نحو متوازن. فبينما كان توفلريتحدث عن التفوق الحضاري القائم على المعرفة المشتركة، تحركت القوى الكبرى نحو احتكار أدوات المعلومات. هكذا ظهرت الإمبريالية الرقمية، وهي شكل جديد من الاستعمار، لا يقوم على الاحتلال المباشر بل على السيطرة على الفضاء السيبراني والبيانات.

الإمبريالية الرقمية تتجسد عبر:

احتكار التكنولوجيا الفائقة من قبل الولايات المتحدة والصين وشركات مثل غوغل، أمازون، ميتا، آبل.
السيطرة على تدفقات البيانات العالمية عبر مراكز الإنترنت والكابلات البحرية.
فرض معايير أمنية وتقنية تجعل الدول الضعيفة معتمدة على منتجات وبرمجيات الشركات الكبرى.
استخدام المراقبة الرقمية والتجسس السيبراني كأداة للهيمنة الجيوسياسية.

وهكذا، تحولت المعلومة من وعد بالتحرر إلى أداة إخضاع، ومن مشروع حضاري مشترك إلى سلاح إمبريالي يكرّس التبعية.

رابعاً: جدلية التفوق الحضاري والإمبريالية الرقمية

تكشف هذه الثنائية عن جدلية عميقة: فالمجتمع المعلوماتي يمثل في الوقت ذاته فرصة للتفوق الحضاري، وأداة لإعادة إنتاج السيطرة الإمبريالية. إنّه فضاء مزدوج: منفتح من جهة على الإبداع والابتكار، ومنغلق من جهة أخرى بفعل الهيمنة الرقمية.

لقد تحوّل ما وصفه توفلر بالانتقال إلى “السلطة القائمة على المعرفة” إلى ميدان صراع شرس بين من يسعى إلى توظيف المعلومات في خدمة الإنسانية، ومن يحصرها في خدمة مصالحه الخاصة. وبهذا المعنى، فإن المجتمع المعلوماتي ليس مرحلة نهائية مغلقة، بل ساحة صراع بين رؤيتين: رؤية حضارية إنسانية، ورؤية إمبريالية تسلطية.

في الختام، تؤكد مراجعة رؤى توفلر أن المجتمع المعلوماتي، بقدر ما يحمل من وعود حضارية، ينطوي على مخاطر تحول المعرفة إلى أداة للسيطرة والإخضاع. إنّ الإشكالية الجوهرية ليست في المعلومات بحد ذاتها، بل في من يحتكرها وكيف يوظفها.

لقد قدّم توفلر خريطة استشرافية لانتقال الإنسانية إلى عصر جديد، لكن الواقع أظهر أن هذا الانتقال لم يكن متكافئًا، وأن الإمبريالية الرقمية تحاول مصادرة ثمار التفوق الحضاري لصالح القوى المهيمنة.

وعليه، فإن التحدي الاستراتيجي أمام المجتمعات، خصوصًا في الجنوب العالمي، هو بناء سيادة رقمية مستقلة، وتعزيز العدالة المعلوماتية، وتحويل المجتمع المعلوماتي من فضاء للهيمنة إلى فضاء للتمكين الحضاري المشترك.