الصحافة في غزة ثمنها الدم.. وصحفياتها أبرز الشاهدات!

في خضم المذبحة المستمرة في غزة، لا أعلم لماذا أكتب الآن، ولمن. أعلم فقط أن ألمًا يفوق الوصف ينتابني وأنا أتابع تعليقات الزميلات الصحفيات هناك:
“هيهم ضربوا عنا”،
“يا بنات لا تنزحوش، هذا ترهيب نفسي، اللي بطلع ما برجع”،
“أنا مش طالعة، اللي كاتبه ربنا بصير”،
“خزنوا يا بنات أكل”،
“أنا بهمني القهوة والباقي مش مهم”…
ثم يتابعن:
“لا تخزني، عملناها قبل وضربونا بالليل، طلعنا نجري وما لحقنا ناخذ اشي وخسرنا كل شيء”،
“والله تعبنا، بكفي”، “مديري بعت يسأل عني، وصفت له الوضع، حسيت أنه لازم العالم يعرف أننا مش طالعين ورح نضل هون”.
هذا غيض من فيض، كلمات مثقلة بالوجع، تحوّل الروح المثقلة أصلًا إلى حطام، وتزيد القلب غرقًا في حزن لا نعلم إن كان له نهاية. فما زرعته حرب الإبادة هذه في أرواحنا أعمق من أن يشفى أو ينسى.
نحن هنا، في الشطر الآخر من الوطن، نسمع ونشاهد ونبكي. نبكي كثيرًا. لكن لا مجال للمقارنة؛ الألم واحد، والذل واحد، والمحتل واحد، غير أن مأساتهن أعمق وأثقل. لا أستطيع الاكتفاء بوصفهن بالبطلات، رغم أنهن كذلك، لأن الحقيقة أنهن ضحايا ينهشهن التعب، قلوبهن تتمزق كل يوم. دعواتهن اليومية لإنهاء هذه المحرقة لم تحمهن. أصواتهن، تقاريرهن، وصورهن لم تشفع لهن. صحيح أن العالم يتضامن بالكلمات، لكنه لا ينصف بالفعل.
سيخرج علينا من يردد: “هذه ضريبة مهنة الصحافة”.
لكن أي صحافة هذه؟
أي صحافة حين يستشهد في غزة وحدها، خلال عامين، من الصحفيين والصحفيات أكثر مما استشهد في جميع حروب العالم مجتمعة؟
أي صحافة هذه التي باتت تنحاز للجلاد وتسوّق روايته؟
أي صحافة هذه التي تتخلى عن صحفييها حين يغتالون؟
أي صحافة هذه التي يسيطر اللوبي الصهيوني على أكبر مؤسساتها الإعلامية، فيحولها إلى بوق يبرر الجريمة؟
أين المعايير التي علمونا إياها وهم أول من نقضها؟ أي سلطة رابعة هذه وقد تجردت من كل سلطة؟
ليست هذه “ضريبة المهنة”، بل سياسة متعمدة لإسكات الصوت الفلسطيني وتجريد العالم من الشاهد الحقيقي على الجريمة.
كم من صحفية قتلت بدم بارد، برصاصة جندي يتسلى بالموت ويتباهى بعدد ضحاياه! كيف لهذا العالم الأرعن أن يشاهد صحفيات أمهات يثقلن يوميًا بالنزوح، الخوف، القلق، الفقد والوجع، دون أن يتحرك؟ كيف له أن يفقد بوصلته الأخلاقية بهذا القدر من البرود؟
الصحفية مريم أبو دقة، لم أكن أعرف قصتها. قرأت عنها فعرفت أنها واحدة من أشجع الصحفيات، تحب غزة كما تحبها غزة. لم أعلم أن الشهيدة التي اغتيلت بدم بارد، كانت قد أودعت ابنها “غيث” خارج القطاع لتأمن له حياة أفضل وتحميه من الفقد. لكنها رحلت وتركته وحيدًا يفجع بأمه. أي قلب يحتمل أن يودع أطفاله إلى الأبد كي يعيشوا، ثم يقتل ليترك لهم يتمًا لا يحتمل؟
رأيت منشورات لصحفيتين من غزة، بطلَتين، احترقت قلوبهما مرتين: مرة بالفقد والنزوح والإذلال، ومرة أخرى حين أبعدتهما الحرب عن أطفالهما، يتخيلن أنهن قد لا يحظين بفرصة اللقاء الأخير، كما حدث مع مريم. إحداهن كتبت: “أشعر بحرقة قلب لا أتمنى لأحد أن يعيشها”. كيف يرى هذا العالم نساءً، أمهات وصحفيات، يحرقن وينزحن ويُهَنَّ كل يوم، ويصمت؟
ورغم ذلك، ما زالت أصواتهن تصل، مشبعة بالصمود والإصرار على التوثيق. لكن يبقى السؤال: لمن ولماذا؟ العالم يشاهد ويسمع بالصوت والصورة، ومع ذلك يكتفي بالصمت والبيانات الجوفاء.
المؤسسات التي تتشدق بحقوق المرأة والإنسان والأمومة، تشاهد صلبهن يوميًا ولا تتحرك. لم أعد أفهم..لأي عالم يكتبن ويصورن؟ وأي رسالة يرجون أن تصل؟ فمن يقرأ تاريخ الغرب لا يستغرب؛ فالمرأة عندهم عانت عبر القرون أشكالًا من القهر والعبودية والامتهان، ولم تمنح وزنًا حقيقيًا إلا مؤخرًا. فكيف لهم أن يقدّروا حرقة قلب امرأة صحفية أم، تحرق وتهجّر وتُهان يوميًا؟
لم يكن هذا الصمت الدولي عجزًا بل سقوطًا أخلاقيًا مدويًا، يفضح خواء القوانين التي طالما تغنى بها الغرب. قوانين لم تسن إلا لحماية مصالح واضعيها. أما إسرائيل “اللقيطة”، “المشروع الصغير” للقوى الكبرى في المنطقة، فمحصنة بحصانة مطلقة، ولو كان الثمن حرق شعب بأسره.

أعلم أنني أكتب من منبع العاطفة والألم، لأنني صحفية وإنسانة، ولأن من يقتلن هن زميلات المهنة والجرح. حملن فوق طاقتهن، وتغنى العالم بشجاعتهن ليغطي عجزه وبشاعته. أدان واستنكر وتضامن، ثم عاد لينام مرتاح الضمير، كأنه أدى واجبه. لكنني، وربما لو كنت مكانهن، لما احتملت بضعًا مما تحملن. ولا أظن أن بشرًا يمكن أن يحتمل ما يعيشه الصحفيات الغزيات اليوم. فلم تكشف هذه المحرقة مأساة غزة فحسب، وإنما كشفت سقوطًا مدويًا لأخلاق العالم كله.
ربما أمنيتي الوحيدة أن ينتهي هذا العالم، لا نحن. فقد تجرعنا الألم منذ طفولتنا، ولم نعرف يومًا آمنًا. أما آن الأوان؟