منذ سنوات، ذاع وشاع نفى البعض لرواية مشهورة حول وقفة الزعيم أحمد عرابى (1841- 1911) ومواجهة الخديو توفيق في 9 سبتمبر سنة 1881، وحسمهم أنها لم تحدث، ومحض رواية مختلقة منتحلة، ويحسم بعضهم مخطئا وكأنه يصحح أن الأمر ليس كما علمونا في المدارس «ما شافش الخديو أصلا».. حتى يخاطبه من فوق جواده وهو يستل سيفه، ويقول له «لن نستعبدبعد اليوم»، هذه صورة عرابى التي سكنت ذاكرتنا أطفالا تستحق أن نحقق هذه الدعوى ومدى ثبوتها أو نفيها.
وقد أثارنى لذلك ما كتبه الأستاذ حلمى النمنم على صفحات هذه الجريدة، الأحد قبل الماضى 17 أغسطس الجارى، في مقاله المعنون «الأسياد اللهم احفظنا»، مشيرا إلى ما سبق أن كتبه في صحيفة «الدستور» سنة 1996، من نفى هذه الواقعة، وهو ما يبدو اقتبسه عنه آخرون بعده مثل الدكتور يوسف زيدان والأستاذ إبراهيم عيسى في عدد من اللقاءات التليفزيونية.
وقد استدل الأستاذ حلمى النمنم على اختلاق رواية مواجهة عرابى للخديو من فوق حصانه مستلا سيفه، كما يذكر، لمذكرات أحمد شفيق باشا، والذى كان شاهدا على الحادثة حينها، ويذكر الكاتب أنه بعد بحثه المضنى قبل ثلاثين عاما، ولأسابيع حينها في وثائق دار الكتب، خلص إلى أنه لم تكن هناك مواجهة مباشرة بين الخديو وعرابى؛ الخديو في الداخل وعرابى في الخارج والمراسلات بينهما. لم يقل الخديو: «ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»، ولم يرد عليه عرابى: «لن نستعبد بعد اليوم» «وأن هذا مما اختلقه بعض المؤرخين وتناقلته الكتب المدرسية فقط!! وكأنها مجرد دعاية لا تصح في التوثيق الأكاديمى، والصواب العلمى.
لكن.. بعد العودة لمذكرات أحمد شفيق باشا (1860- 1940) «مذكراتى في نصف قرن» وتناوله الحادثة في جزئها الأول، لم نجد ما يستدل به على النفى، بل ما يستدل به على يقين حدوثها، فالرجل يؤكد أن عرابى تقدم راكبا جواده شاهرا سيفه وخلفه بعض الضباط فنزل الخديو إليهم من قصره غير مكترث لما قد يتعرض له من الأخطار، وكان معه السير أوكلاند كلفن المراقب والمستر كوكس قنصل إنجلترا في الإسكندرية النائب عن معتمد إنجلترا، وأن الأخير نصح الخديو بالثبات وألا ينسى أنه مليك البلاد! وروى بقية القصة ونص على أن مطالب عرابى لم تقف عند مطالب الجيش بل كانت حسب نصه: «إسقاط النظارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب وتنفيذ القوانين العسكرية التي أمرتم بها» (المذكرات الجزء الأول ط 1934 ص 120) وقد ذكر شفيق باشا أن المفوض الإنجليزى كوكس نصح الخديو أن يمتثل لها في النهاية فلا حول له ولا قوة!! بعد أن تولى إدارة المفاوضات بين الجيش بقيادة عرابى والخديو الذي عاد للقصر.
ولكن أهم من السابقين، نجد شهادة الصحفى الشامى الأستاذ سليم النقاش (المتوفى سنة 1884) في مجلداته «مصر للمصريين أو حوادث الفتنة العربية» فهو معاصر لأحداثها، وأول من أرخ للثورة العرابية، قبل وفاته، حيث ذكر في الجزء الرابع من كتابه أن عرابى ذكر للقنصل أنه مستعد للمقاومة وفرض طلباته بالقوة، وأن الخديو والقناصل الذين استدعاهم، لم يجدوا بدا من الاستجابة لمطالبه.
