تصريح توماس باراك عن إلحاق لبنان ببلاد الشام لا يمكن أن يُقرأ كوجهة نظر شخصية، أو زلّة دبلوماسية، أو حتى ضمن إطار الضغوط الممارسة على لبنان لدفعه إلى ما يُفترض به إنجازه. ربما نكون امام موقف او كلمة قيلت في معرض غير جدي ولا تحمل ابعادا تهديدية للبلد. لكن يبقى ان هذه المسألة ليست عابرة او تفصيلًا بالنسبة لنا كلبنانيين. إنه موقف معلن (بغض النظر عن ابعاده) يمسّ جوهر الكيان اللبناني وموقعه في الإقليم. وإذا مرّ هذا التصريح من دون ردّ علني وواضح من الدولة اللبنانية، فذلك لا يدلّ على حكمة، بل على تساهل مريب مع التفريط بما تبقّى من السيادة الوطنية. فحين يُقال الكلام على الملأ، لا يُردّ عليه في الغرف المغلقة باي طريقة كانت.
صحيح أن لبنان يمرّ بإحدى أكثر مراحله تعقيدًا، حيث تعطّلت السياسة بشكل غير مسبوق من الضحالة وانعدام الخيال، وتكاثرت الأزمات حتى باتت البلاد وكأنها تعيش على هوامش الممكن. ومع ذلك، فإن الكيان اللبناني ليس في خطر. بل لعلّه، وللمفارقة، أكثر ثباتًا من دول تبدو على السطح أقوى وأكثر تنظيمًا. لا أحد من اللبنانيين، أفرادًا أو جماعات، يتعامل اليوم مع الوطن كأمر طارئ أو قابل للتنازل. وهذا ما أثبتته التجارب: فلبنان، رغم هشاشة دولته، لا يزال حاضرًا في وعي ناسه، ليس فقط كوطن، بل كضرورة وجودية غير قابلة للتجاوز أو للتخفّف منها.
لقد استقلّ لبنان عن سوريا بقدر ما استقلّ عن فرنسا، وربما أكثر. فوجوده السياسي والثقافي والاجتماعي يقوم، إلى حدّ كبير، على هذا التمايز عن محيطه. وليس تفصيلًا أن هذا البلد دفع ثمنًا غاليًا في مواجهة هيمنة النظام السوري، ومحاولات إخضاعه لحاكم دمشق. اللبنانيون دفعوا بالدم، بالسجن، بالاغتيال، وبالمنفى، ثمن الحفاظ على استقلالهم. وهم اليوم، رغم كل الانقسامات، يكادون يجتمعون على رفض أي مسّ بهذه السيادة أو العودة إلى ذلك الماضي الأليم. هذه مسألة محسومة، وربما من القضايا النادرة التي تُجمع عليها معظم المكوّنات اللبنانية.
وكل محاولة لتسييل الكيان أو ربطه بإملاءات دمشق أو غيرها، ستجد حتمًا من يتصدّى لها من داخل هذا الشعب. فالمسألة هنا لا تتعلّق بمحور أو بخيار، بل بكيان مكتسب لا يمكن التنازل عنه او التخفف منه.
ما نعيشه اليوم ليس أزمة كيان، بل أزمة دولة. ففي المراحل الأولى من تاريخنا الحديث، امتلكنا دولة من دون إجماع على الكيان. أما الآن، فلدينا كيان لا خلاف على نهائيته، لكن الدولة التي يُفترض أن تحميه تكاد تكون غائبة بالكامل. وهذا الفراغ ليس دستوريا وقانونيا وسياسيا فحسب، بل أخلاقي في جوهره. إذ لم يعُد مقبولًا القبول بعجز دائم، ولا بإدارة تستبطن الانهيار كأمر واقع.
في كل الاحوال، المجد، كل المجد للبنان، الوطن النهائي، الأزلي، السرمدي بعاصمته وجبله وشماله وبقاعه وجنوبه، كيان اكثر صلابة وشرعية من معظم دول الجوار.
