في مايو 2025، سافرتُ إلى لبنان لحضور مؤتمر أكاديمي. عندما غادرت المطار، انا معجبة باللوحات الإعلانية الضخمة على جانب الطريق قد تم استبدالها بصورة جوية لشاطئ جونية، مرفقة بعلم لبناني ضخم وشعار يقول: “عهد جديد للبنان“.
يمر طريق المطار عبر منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، وهي منطقة ذات أغلبية شيعية وتُعد معقلًا رئيسيًا لحزب الله. لطالما تزيّنت شوارع هذه المنطقة بملصقات سياسية تمجّد حزب الله وحركة مقاومته ضد إسرائيل. عندما زرتُ بيروت العام الماضي، كانت صور الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي معلقة في نفس المكان.
وقد اعتبر البعض استبدال هذه اللوحات الإعلانية نصرًا في حملة إزالة دعاية حزب الله، بينما رأى آخرون من اللبنانيين أنها ترمز إلى استعادة الدولة اللبنانية لسيادتها، وتجسيدًا لتشكيل “هوية وطنية لبنانية”. ومع ذلك، لم يمضِ سوى بضعة أيام حتى تعرّضت هذه اللوحات لحوادث حرق متعمد. وبعد أيام قليلة، أعلنت الحكومة اللبنانية أنها ستزيل جميع الشعارات واللافتات والصور والأعلام والإعلانات ذات الطابع الطائفي من المناطق العامة على طول وسط بيروت، بهدف إنشاء “مدينة خالية من الشعارات الطائفية والحزبية“.
تُعتبر الملصقات السياسية أداةً دعائية وغالبًا ما يُنظر إليها على أنها تجسيد لـ”البروباغندا“. تشير الباحثة زينة معاصري إلى أن الملصقات السياسية في لبنان تمثل ساحةً رمزيةً للصراع. فالحروب المستمرة جعلت من هذه الرموز البصرية جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية في لبنان، كما ساهمت بعمق في تشكيل ملامح المدينة. خلال الحرب الأهلية، لم تتنافس الأحزاب السياسية عبر المواجهات العسكرية فقط، بل سعت أيضًا من خلال إنتاج وتعليق كميات كبيرة من الملصقات السياسية إلى السيطرة الرمزية على الأرض وعلى الخطاب العام.
من الجدير بالذكر أن الملصقات في شوارع لبنان تحمل طابعًا مزدوجًا، سياسيًا وتجاريًا، حيث يتم وضعها من قبل شركات الإعلانات وتتنوع في مضمونها بين الإعلانات التجارية والمواضيع السياسية. فعلى سبيل المثال، بعد حرب عام 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وخلال فترة إعادة الإعمار التي قادتها قطر، نُشرت إعلانات تحمل شعار “شكرًا قطر”. وفي عام 2012، وبمناسبة زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان، عُلقت في نفس المكان ملصقات تُحيّي البابا. كما تُعلّق في هذا الموقع سنويًا، في 14 فبراير، صور رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، إحياءً لذكرى اغتياله.
كان السائق الذي استقبلنا في المطار متفائلًا بشأن الوضع. فقد رأى أن انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد عامين من الفراغ الرئاسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية يُعدّ بداية جديدة للبنان. وأشار إلى أن الرئيس الجديد ينشط حاليًا في زيارة دول الخليج العربي لجذب الاستثمارات، في وقت بدأ فيه قطاع السياحة بالتعافي تدريجيًا، ما يُعدّ إشارة إيجابية على انطلاقة جديدة. ورغم أن هذا السائق يُجسّد روح التفاؤل التي يتحلى بها الكثير من اللبنانيين، إلا أنني ما زلتُ أتعامل بحذر مع الخطاب الوطني حول “العهد الجديد”.
فرواية “العهد الجديد” التي تروّج للوحدة الوطنية، وإن كانت تحمل قيمًا شمولية وإنسانية، إلا أنها لا تستطيع أن تخفي الانقسامات الطائفية العميقة وبُنى السلطة المتجذرة في المجتمع اللبناني. فالهويات الطائفية لطالما أثّرت على المشهد السياسي، وتوزيع الموارد، والخدمات الاجتماعية، بل وعلى تفاصيل الحياة اليومية. إن محاولات الحكومة لإزالة الرموز الطائفية في سبيل تشكيل صورة موحّدة للدولة، تبدو في واقع الأمر تبسيطًا مخلًا لتعقيد الواقع، وقد تُعدّ محاولة لطمس التناقضات القائمة.
وعندما كنتُ في بيروت، شعرت بعمق بتعقيد الرموز السياسية والفضاءات البصرية في هذه المدينة. وهذا دفعني للتساؤل: كيف يمكن بناء الهوية الوطنية في مجتمع تتعايش فيه ديانات وطوائف متعددة؟ وما هي الرموز البصرية، والفضاءات العامة، والخطابات السياسية التي يتم من خلالها تشكيل هذه الهوية، والتنازع حولها، بل وحتى التلاعب بها؟ وكيف تتصارع الجماعات المختلفة على حق التعبير عن الهوية واحتكار السرد داخل هذا الفضاء الوطني المشترك؟
هذه التساؤلات لا تتعلق فقط بواقع لبنان السياسي، بل تمس جوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع.
