في زمن لم يعد فيه الانتماء السياسي يُقاس بمكان التصويت أو بطاقة الحزب، بل بمقدار البيانات التي ننتجها، يواجه مفهوم “الهوية السياسية” تحولا جذريا. دخلت البشرية طورا جديدا من تشكيل الانتماء والولاء، حيث لم تعد الأحزاب تقتصر على مقارّها المركزية وأجهزتها الأيديولوجية التقليدية، بل ظهرت كيانات جديدة تُعرف بـ الأحزاب السيبرانية، تتغذى على البيانات الضخمة، وتعمل على تشكيل الوعي السياسي بوسائل غير مسبوقة.
عبر العقود، تبلورت الهوية السياسية حول عناصر مستقرة: الانتماء الطبقي، الديني، القومي، أو الأيديولوجي. كان الحزب السياسي هو الإطار الجامع لهذه الهويات، يشكلها ويحميها. لكن هذه البنية بدأت بالتآكل مع صعود العولمة الرقمية، التي جعلت من الحدود الجغرافية مجرد إشارات بيانات عائمة.
أصبحت الهوية السياسية أكثر سيولة، وأقرب الى “الاشتراك الرقمي” في مجموعات تمثل اتجاهات فكرية، قضايا حقوقية، أو حتى ميولات عابرة، إذ فقدت الهويات القديمة مركزيتها لصالح شبكات جديدة تعيد تشكيل الذات السياسية على أسس خوارزمية. فالحزب السيبراني ليس مجرد نسخة رقمية من الأحزاب التقليدية، بل هو كيان يولد من البيانات ويعيش داخلها، وإنه لا يتوجه الى الجماهير من خلال برامج سياسية بقدر ما يوجه الخوارزميات لرسم مسارات التأثير والتعبئة، وتتكون الأحزاب السيبرانية من ثلاثة عناصر مركزية:
ومن الأمثلة اللافتة: حزب القراصنة الأوروبي، أو الحملات الانتخابية الرقمية التي استخدمت في البريكست والانتخابات الأمريكية، حيث أصبحت “البيانات” هي الحزب الفعلي.
إذا كانت الهويات السياسية التقليدية مرتبطة بالمكان (الوطن، الحي، الطبقة)، فإن الهوية السيبرانية تُبنى على أساس “الاهتمام” و “الانفعال” و “التفاعل”. فالمستخدم يتبع القضية لا الحزب، ويبايع الفكرة لا الأيديولوجيا، ويؤدي ذلك الى ثلاث ظواهر جوهرية:
وبالتالي، لم يعد الانتماء السياسي علاقة طويلة الأمد بقدر ما أصبح نوعا من “الاشتراك العاطفي الديناميكي”، حيث يُمكن للمواطن أن يكون ضمن أكثر من انتماء في الوقت ذاته، دون تناقض بنيوي واضح.
في هذا السياق، تدخل الدولة في معركة من نوع جديد: معركة السيادة على الوعي السياسي. كيف ينكن لدولة أن تحمي ولاء مواطنيها إذا كانت الأحزاب السيبرانية العابرة للحدود قادرة على التأثير في توجهاتهم ومواقفهم الانتخابية والاجتماعية؟
من هنا، يمكن صياغة ملامح التحدي الاستراتيجي:
وفي ظل هذا، تصبح السيادة السيبرانية هدفا استراتيجيا للدول الراغبة في الحفاظ على استقرارها السياسي الداخلي.
ان المواطن السيبراني لم يعد يكتفي بالتصويت، بل يشارك في إنتاج السياسة، من خلال إعادة نشر المحتوى، أو المساهمة في الحملات، أو بناء سرديات موازية. هنا، تصبح المواطنة فعلا رقميا مستمرا، لا مجرد خيار انتخابي دوري.
وتبرز مفارقة خطيرة: ازياد التفاعل لا يعني بالضرورة ازدياد الوعي، إذ يمكن للتضليل أن يلبس ثوب التفاعل، ويمكن للضجيج أن يخفي الحقيقة.
في زمن البيانات الضخمة، لم يعد السؤال: ” لأي حزب تنتمي؟”، بل ” أي خوارزمية تصيغ انتماءك؟”. وبينما تتراجع الهويات السياسية التقليدية، تصعد أشكال جديدة من الانتماء المائع، المشروط، المؤقت، والمتفاعل رقميا.
يبقى التحدي الأكبر أمام الدول والمجتمعات هو بناء منظومة من الانتماء الرقمي الواعي، تقوم على تثقيف سيبراني عميق، وتشريعات تحمي المجال العام من التلاعب الخوارزمي، ووعي استراتيجي بمسألة لم تعد تخص السياسة فحسب، بل تمسّ جوهر الذات الإنسانية في العصر الرقمي.
