بين مطرقةِ الاحتلال وسندانه: لا مهزومَ إلا المبدأ

أشعرُ هذه الأيام بمزيجٍ من القهرِ والقرفِ واليأس؛ إذ يقول الكثيرون ويكرّرون: “إنّك إن لم تقف مع إيران، فأنت في صفّ (إســرائــيل).” بهذا الإطلاق. وبهذه الفجاجة.

لا بل إنّ مَن يجرؤ منّا على أن يقولَ إنه ليس مكترثًا بالجحيم الذي سيذهبُ إليه النظام الإيراني بعد هذه الأحداث، فهو “منافقٌ مُرجف”، سعيدٌ بانتصارات الصهايــنــة على “عضوٍ من جسدِ المسلمين”.
وبما أنّنا أمةٌ لا تملك ولا تُجيد سوى الكلام، -ويبدو أنّنا لا نملكه ولا نجيده كذلك-، اسمحوا لي أن أغامرَ باتهامي بالنفاق، وأقولَ رأيًا شخصيًا في الذين يمجّدون نظامًا بدناءةِ النظام الإيراني، وينعَون قياداتهِ وشخوصَه وأذرعَه، ويترحمون عليهم ويبكونهم -كما بكوا حسن نصر الله مثلًا-، وكأنه خاتم الرسل وصلاحُ دينِ العصر الأخير.

هؤلاء لم يتعلموا شيئًا ولن يتعلموا، من ربيع عربي أو من خريف غربي أو من شتاء آسيوي. ولا يعرفون منطلقاتهم ومبادئهم التي يبنون عليها أقوالهم أو أفكارهم أو “بوصلتهم”، أو أي شيءٍ يخرج من أفواههم. بل أجزم أنّهم لم يتابعوا ولو نزرًا يسيرًا مما جرى ويجري في لبنان وفي سوريا وفي العراق، وفي اليمن الذي يحتضرُ منذ سنواتٍ بعيدًا عن أعينهم، ولا يعني لهم ذلك أيّ شيء. يختزلونَ اليمنَ في بضعة صواريخ، ولا تعني لهم سوريا أكثرَ من حربٍ أهلية وشأن داخلي، ولا يعني لهم لبنانُ سوى الجنوب منه، ولا يعني لهم العراقُ شيئًا أصلًا.
ولو رأوا مقطعًا واحدًا فقط، لواحدٍ من (شبيحة) حسن نصر الله، وهو يسحل الأبرياءَ على الإسفلت حتى تدمى وجههم وتكاد تظهر عظام فكّهم، ثم يأمرهم بأن يُعلنوا بأنّ “ربّهم حسن نصر الله”، وأنّ “بساطير الحزب” فوق رؤوسهم ورؤوس أهاليهم، ويضحك عاليًا ويشتمُ اللهَ وأنبياءه هو وبقيةُ وحوشه المسعورين، أو داسَ طفلٌ من أطفالهم على لغمٍ من ملايين الألغام التي زرعها (الحوثي) بين المدنيين، في المدارس والمستشفيات والمساجد والطرقات، أو أنصتوا لشهادات آلاف النساء المغتصَبات جماعيًا أمام أعينِ أزواجهنّ في السجون، والرّجالِ المُقطّعة رؤوسهم أمام أبنائهم في غرف نومهم، المرميّين في الحُفر العميقةِ ومكابسِ الجثث والمحارق، والمسفوكة دماؤهم في الأنهار ومجاري الصرف الصحي، لما وجدوا فرقًا واحدًا بين البشاعة المُطلقة لهذا النّظام الطائفي بأذرعه المريضة، وبين قذاراتِ الاحــتـلال المختلِّ نفسه، الذي يدّعي أنه يحاربه ويطهّرُ المنطقة من شروره.

القضية اليوم لا تتعلّق بمشاعرك الشخصيّة تجاهَ أطرافٍ متنازعة، فرِحنا بموتِ ذلك “القيادي” أم لم نفرح، حزنّنا لقصف المفاعلات أم لم نكترث، “لطَمنا” على صدر هذه الأمّة النازفة -كما يفعلون- أم لم نلطم، هذه ليست المسألة، فمشاعري ومشاعرك كما تعلمُ هي أقلُّ من هامشية، ولا تزنُ في مقياس السياسة والعالم جناحَ بعوضةٍ ميتة. المسألةُ الكبرى هي الوعيُ الذي يُفترض -في عالمٍ يحترمُ نفسه- أن يقومَ على مبادئ ومرتكزات ثابتة: ثمّة شخصياتٌ وأنظمةٌ وعقائدُ تستحقّ أن تنال حدًا أدنى من العقوبة على إجرامها، وهو أن تُفكَّك سردياتُها وأكاذيبها وتناقضاتها، ثمّ تُذكر في الحاضر وفي كتب التاريخ والذاكرة الجمعيّةِ على ما هي عليه: شخصياتٌ وأنظمةٌ وعقائدُ مُجرمة لعينة.

قولوا جملتكم الصارخة هذه “إن لم تقف مع إيران فأنتَ مع إســرائـيـل” لمئات الآلاف بل الملايين من الضحايا، بين شهيدٍ ومنهوبٍ ومسروقٍ ومغتصبة، ومُنكّل بجسده وبعرضه وشرفه وببيته وأملاكه، وهم ينظرون إليكم وأنتم تبجّلون مُغتصبهم، ثمّ تتهمونَهم بالنفاق “والإرجاف” بهذه السّهولة. ولا تملكون أدنى ذرّة خجل أو حياء، من إنسانيّتكم الانتقائية العوجاء. ومن مبادئكم الملوّنة حسب أمزجتكم ولهجاتكم، وحدودكم الوهميّة، وانحيازاتكم المرحليّة، وذاكرتكم السمكيّة. لا بل تخيّلوا من تزعمون أنّكم تحزنون لأجلهم في غــزة على كيبورداتكم، وفي كلّ مكانٍ منكوب. وأنتم تهلّلون وتصفقون لمن لو حُكّم فيهم لما ألى جهدًا أن يسحقهم سحقًا بميليشياته ومشروعه التوسعيّ السّرطاني المقيت.

كنت أريد أن أقول شيئًا لمن يريد أن يحشرَ إيرانَ في مناخِرنا وإلا كنا في ميزانِ عدالتِه منافقين: أنت لا تفهمُ النفاق، ولو فهمتَ معناه لانعكست لكَ أفكارُك في ماءِ مرآتكَ المشوّشة. بتصفيقك للنظامِ الإيراني، تصفّق لشيءٍ تدّعي بملءِ فمك أمامنا رفضَكَ إيّاه، وتلطّخُ ما تبقّى من بقيّةِ وعيٍ لدينا، نحنُ المتفرّجونَ المحرومونَ من أيّ فعلٍ صادقٍ يشفي الصّدور. تدمع لانتصاراتٍ مُنتجت لك على نمط الأفلام والروايات والشعارات العريضة التي جابت أجلَ الأمة العربية كلها منذ عقود. لكنّها لم تحدث، ولن تحدث، ولن تؤتيَ أُكلها ولا عائدها علينا لا على المدى القريبِ ولا البعيد، طالما أنّنا محرومون من امتلاكِ “مبدأ”. وطالما أنّ لكلّ واحدٍ منا في هذه الأيّام “مُجرمٌ مُفضّل”. ومجرمٌ “أقلّ إجرامًا”. ومُجرمٌ “ليس هذا وقتَ مناقشةِ جرائمه”. وكأنّ سجلّ القتلِ والتنكيل يسقطُ برمّته لدى حضرتكَ بالتقادم. وطالما أنّك تبرّر بوعيكَ ولا وعيكَ فظائعَ السّفاحِ والمُغتصِب حينَ تتّفقُ فظائعهُ مع مزاجكَ الفكريّ. وطالما أنّك لم تخرج من عباءات الطغيان. ولم تعرفها ولم تميّزها. بل لم تُكلّف نفسك عناءَ تمييزها قبل تمجيدِها.
أمثالُك يخلقون بيننا وفي أوطاننا ألفَ إيران، وألفَ ألفَ “إســ.ـرائــيل”.

يا للجهلِ حين يمتزجُ بالجرأةِ، ما أردأه. ويا أسفا على أمّةِ القائلِ الحكيم:  “والذي نفسي بيده، لو أنّ (فاطمةَ بنتَ محمّدٍ) سرقت، لقطعتُ يدَها.”