المنظمات الدولية كفاعل أمني: اقتصاد اللجوء والسيادة في لبنان

في ظلّ التحوّلات التي شهدها النّظام الدّولي في العقود الأخيرة في مفهوم الفاعلين الأمنيّين، وبالتّوازي مع تطوّر نظرية الأمن الشامل، لم تعد التحدّيات تقتصر على المواجهة العسكريّة أو النزاعات السياسيّة بل تخطّتها إلى الجانب الإنساني مثل قضايا الفقر والهجرة والمناخ والصحة والتعليم، التي تمثّل أبرز مهدّدات الإستقرار الوطني للدّول. ووفق مدرسة كوبنهاغن، تعرّف “الأمننة” بأنها تحويل قضيّة معيّنة إلى مسألة أمنية تستدعي إجراءات استثنائية. من هنا، تعتبر المنظمات الدولية فاعلًا أمنيًا غير تقليدي حين تعالج قضايا اللجوء والهجرة من خلال سياسات واستراتيجيات تؤثّر على السيّادة ووظائف الدّولة.

لبنان كنموذج

في هذا السّياق، يشكّل لبنان نموذجًا حيًّا لتحليل هذا التّداخل، لا سيّما في ظلّ هشاشة مؤسساته وعمق أزماته وتعدّد الفاعلين الدوليّين على أراضيه. فمنذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، استقبل لبنان قرابة 2.5 مليون لاجئ سوري، ما جعله الدولة ذات الكثافة الأعلى للّاجئين (ما يقارب نصف عدد سكانه)، وفقًا للمفوضيّة السّامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR).

وحتى إعداد هذا التقرير، تزداد وتيرة النزوح غير الشّرعي نتيجة الأوضاع غير المستقرّة عبر المناطق الحدودية الشمالية والشرقية. فقد أدّى استقبال أعداد كبيرة من اللاجئين، رغم أهميته من منظور إنساني، إلى إضعاف الإستقرار الإقتصادي وإحداث تغيّرات ديمغرافيّة، شكّلت تهديدًا مباشرًا للأمن القومي.

المساعدات الدولية وأثرها

وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، تجاوزت المساعدات الإنسانية الموجهة لأزمات النزوح عالميًا 38 مليار دولار في عام 2023، تم تخصيص جزء كبير منها لدول اللجوء مثل لبنان. ووفق تقرير المفوضية السّامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (2024)، بلغ حجم الدّعم المقدّم للاجئين السوريين في لبنان عام 2023 نحو ملياري دولار، وقدّر عدد المستفيدين من المساعدات النقدية المنتظمة بأكثر من 800 ألف لاجئ.

تلقى لبنان بين عامي 2011 و2023 أكثر من 13 مليار دولار كمساعدات متعلقة باللجوء، في حين تجاوزت الكلفة الفعلية لاستضافتهم حوالي 30 مليار دولار بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي.

أبعاد المساعدات الإنسانية

المساعدات الإنسانية، وإن كانت تُعرف بأنها الدعم المالي أو اللوجستي الذي تقدمه المنظمات الدولية لتخفيف معاناة المتضررين من الأزمات، غالبًا ما تتجاوز الطابع الإغاثي إلى التأثير في الاقتصاد المحلي، البنية المجتمعية، والسياسات الوطنية. كما أن بروز المنظمات الدولية كـ”بديل مؤقت” عن الدولة في تقديم الخدمات، أعاد تشكيل مفهوم “السلطة” على الأرض.

الانعكاسات على السيادة الوطنيّة والأمن القومي اللبناني

1. تقويض شرعية الدولة

أصبحت المنظمات الدولية المصدر الرئيسي للخدمات، حيث إن 70% من المساعدات الدولية للاجئين في لبنان لا تمرّ عبر القنوات الحكومية، بل تصرف مباشرة عبر منظمات وشركاء غير حكوميين. هذا النمط من المساعدة أضعف قدرة الدولة على التخطيط الاستراتيجي وتقويض سيادتها على سياساتها الاجتماعية.

2. تشجيع اقتصاد موازٍ للمساعدات

المساعدات النقدية خلّفت ما يشبه دورة مالية خاصة داخل المخيمات، خارج نطاق الرقابة الحكومية، وهو ما يمكن وصفه بـ”اقتصاد اللجوء المغلق”، حيث ظهرت شبكات وسطاء تستفيد من المساعدات، مما عزّز اقتصاد الظلّ وعمّق من فجوة الفساد.

3. إضعاف القرار السيادي

خضعت الحكومة اللبنانية لضغوط دولية لتبنّي سياسات معيّنة تجاه اللاجئين، مما عكس تدخّلًا في صلب القرار السيادي الوطني.

4. الضغط على البنية التحتية

أشارت تقارير وزارة الطاقة اللبنانية إلى أنّ 80% من محطات توليد الطاقة الكهربائية في المناطق الحدودية التي تشهد تمركزًا أكبر للنازحين تعمل فوق طاقتها الاستيعابية.

5. التأثير على القطاع التعليمي

تجاوزت نسب التسجيل في المدارس الحكومية القدرة الاستيعابية بنسبة 45%. مما دفع وزارة التربية اللبنانية للتعاون مع المنظمات الدولية لتنظيم دوام مسائي خاص بالطلاب اللاجئين. كما أصبح دعم القطاع الرسمي مشروطًا بدمج الطلاب النازحين ضمن الدوام الصباحي، وتوسيع دائرة المستفيدين.

6. الضغط الأمني

شهدت المناطق الحدودية تكرارًا لمواجهات مسلحة مرتبطة بالمخيمات وقوى غير نظامية، في ظل عجز القوى الأمنية والعسكرية الرسمية عن ضبط الحدود.

متى تتحول المساعدات إلى رافعة تنموية؟

لتحقيق توازن بين الأمن القومي والإنساني بما يضمن سيادة الدولة واستقرارها، كان من الواجب توجيه المساعدات لتصبح فرصة حقيقية عبر:

  • دمج اللاجئين في سوق العمل الرسمي “بشروط منظمة”، مما يحوّلهم إلى منتجين ومساهمين في الاقتصاد ويحدّ من توسّع “اقتصاد اللجوء”.
  • استخدام المساعدات لتطوير البنية التحتية في المناطق المضيفة، بدل التركيز فقط على المخيمات.
  • إشراك الحكومات المحلية في تخطيط وتوزيع المساعدات، بما يضمن التكامل والتنسيق، مع تعزيز الشفافية في نشر بيانات المساعدات وآليات صرفها لكسب ثقة المواطن اللبناني.
  • تعزيز الرقابة المالية والإدارية على برامج الدعم بالتعاون مع الهيئات الدولية.
  • إطلاق حوار وطني موسع حول آثار اللجوء، بمشاركة المجتمع المدني والبلديات.

خاتمة

إنّ المساعدات الدولية أداة تعتمد نتائجها على من يمسك بها ويديرها، وفي أي سياق تُطبق. ففي ظل غياب السياسات الوطنية الفاعلة، قد تتحول المساعدات إلى وسيلة ضغط تضعف الدولة بدلًا من دعمها. أما حين تتكامل مع استراتيجيات وطنية رشيدة، فيمكن أن تكون جسرًا نحو الاستقرار، والتمكين، والسلام.

لطالما عانى لبنان تهديدًا ما زال يتعاظم بصمت، بالرغم من التغييرات السياسية في سوريا التي فتحت أفقًا جديدًا في إطار جهود لبنانية وسورية لمعالجة ملفات مشتركة، وتحقيق الاستقرار في المنطقة، مع التركيز على حل قضية اللاجئين السوريين عبر “العودة الطوعية” إلى بلادهم. إلا أن انعكاسات هذا المفهوم على أمن الدول تأخذ أبعادًا متعدّدة ترتبط بالبيئة السياسية والأمنية المحيطة، لاسيما إذا كان هناك تسييس لمسألة العودة، مما قد يولّد توترات داخلية تمسّ الأمن الاجتماعي.