في كتابهما الذي سيصدر في يوليو/تموز 2025 للباحثين باتريك هيني وجيروم دريفون بعنوان “تحوّل بفعل الناس: طريق هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا”، يرصد المؤلفان التحولات المتسارعة التي طرأت على الهيئة منذ عام 2019. يستند الكتاب إلى مقابلات مع قادة الهيئة، بمن فيهم الرئيس السوري أحمد الشرع (المعروف سابقا بأبو محمد الجولاني)، إضافة إلى شهادات من دبلوماسيين ومعارضين وشخصيات مستقلة.
ويستفيض الباحث باتريك هيني في شرح التحوّل الجذري الذي طرأ على هيئة تحرير الشام وزعيمها، وهي تحوّلات يرى أنها لم تكن لحظة مفاجئة أو انقلابًا أيديولوجيًا معلنًا، بل سلسلة من التعديلات التكتيكية والتكيّفات المحلية المتدرجة عبر السنوات.
في حلقة جديدة من برنامج (Centre Stage)، الذي تنتجه الجزيرة الإنجليزية، تحدّث الباحث والمؤلف المتخصص في الشأن السوري باتريك هيني عن التحولات العميقة التي طرأت على هيئة تحرير الشام. وفي بداية الحوار، أشار هيني إلى أن الهيئة ليست معنية أساسًا بالحكم أو الإدارة بقدر ما هي تنظيم ثوري بطبيعته، يسعى إلى إحداث تحولات كبرى على الأرض. وقال “هم ثوار، لا يمكنهم معاداة المجتمع، ويدركون أنهم في موقع ضعف، وبالتالي عليهم أن يتعاملوا مع الواقع بحذر ومرونة”.
وأضاف أن التحول الحاسم الذي غيّر مسار الحرب في سوريا جاء حين نجحت الفصائل المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، في السيطرة السريعة على مناطق واسعة في البلاد، من إدلب إلى حماة وحمص، وصولًا إلى العاصمة دمشق، وأطاحت بنظام بشار الأسد، الذي حكم سوريا لأكثر من نصف قرن. هذا الإنجاز، بحسب هيني، لم يكن متوقعًا حتى من قادة الهيئة أنفسهم، بما فيهم الشرع.
وأوضح هيني أن أحد العوامل التي عجّلت بهذا التقدم هو “ضعف محور المقاومة”، في إشارة إلى تراجع نفوذ إيران وحزب الله نتيجة الضغوط الإقليمية، وانشغال روسيا بحربها في أوكرانيا. هذه الظروف أوجدت “نافذة فرص”، رأت فيها الهيئة إمكانية للعودة إلى العمل العسكري بعد فترة من الجمود عُرفت بـ”الصراع المتجمّد”.
ورأى هيني أن زعيم هيئة تحرير الشام لم يكن مرتاحًا للدور المفروض عليه كـ”حاكمٍ لِجَيْب صغير” في إدلب، بل كان يسعى إلى أدوار ملحمية تتناسب مع طبيعته الثورية. وأضاف “هو لا يرى نفسه مسؤولًا إداريًا عن مخيمات ولاجئين وأشجار زيتون، بل قائد ميدان، رجل معارك وتحوّلات كبرى”.
وعن شخصيته، قال هيني “التقيت به عدة مرات خلال السنوات الماضية، وهو شخصية تمتلك رؤية واضحة لما تريده. يُحسب له أنه نجح في قيادة حركته عبر تحولات أيديولوجية عميقة، وتمكن من الحفاظ على وجوده واستمراريته في صراع يمتد لأكثر من 14 عامًا”.
ووصفه بأنه إستراتيجي وبراغماتي في آن معًا، يمتلك القدرة على التكيّف واتخاذ قرارات مفصلية ضمن تعقيدات المشهد السوري. واعتبر أن ما نشهده اليوم من تغيّرات على الأرض هو نتيجة مباشرة لهذا التحول الذي قاده الجولاني داخل الهيئة.
في الأيام التي أعقبت سقوط النظام، يرى هيني أن الوضع بدا أفضل مما كان متوقعًا، لكنه يصف المشهد بأنه لا يزال هشًا ويعتمد على كيفية إدارة ما بعد الصراع، وهو ما سيتضح أكثر في قادم الأيام.
يطرح المحاور سؤالًا لافتًا: كيف يمكن لرجل كان قبل سنوات يقاتل ضمن قيادة “جبهة النصرة” ويتبنّى “خطابًا متطرفًا”، أن يتحول اليوم إلى زعيم يعلن التزامه بضمان الحريات الشخصية، ويطالب بعدم المساس بالمباني الحكومية أو بالأقليات؟
يرد هيني بأن هذا هو “سؤال المليون دولار”، مؤكدًا أن ما حدث لا يمكن اختصاره بجملة واحدة أو تفسير سريع، لكنه محاولة لفهم مسار متراكم من التغيّرات، وليس مجرد تبديل علني في الخطاب أو الأيديولوجيا.
وأوضح أن هذه التحولات جاءت نتيجة ضغوط وتعقيدات عدة، بعضها محلي وبعضها الآخر إقليمي ودولي. فقد وجدت الهيئة نفسها مضطرة للتعامل مع واقع جديد، من أبرز ملامحه الوجود التركي العسكري في الشمال السوري، وتكوين بيئة مجتمعية يغلب عليها الإسلام الصوفي التقليدي، لا السلفي الجهادي، وهو ما تطلّب مقاربة جديدة في العلاقة مع السكان.
تراجع الأجنحة المتشددة
يصف هيني ما حدث داخل الهيئة بأنه “دائرة فاضلة” من التحول التدريجي: كل خطوة تكيف جديدة كانت تواجه مقاومة داخلية من التيارات الأكثر تشددًا، وكانت تلك المقاومة تُواجه من القيادة، مما أدى تدريجيًا إلى تقليص نفوذ هؤلاء المتشددين.
ومن أبرز الأمثلة على هذا التحول، قبول الهيئة عام 2017 بإقامة “حكومة الإنقاذ السورية” كجسم إداري بديل، وهو ما اعتُبر تحولًا في نهجها من العسكرة إلى نوع من الحوكمة، حتى وإن كانت تحت سيطرتها المباشرة.
كما اضطر قائد هيئة تحرير الشام إلى تبرير مواقف صعبة أمام جمهوره الداخلي، من قبيل القبول بهدنة فرضتها تركيا مع روسيا بعد 9 أشهر من المواجهات العنيفة، وبيع ذلك الخطاب الجيوسياسي في سياق شرعي جهادي داخلي، وهو ما شكّل تحديًا فكريًا وتنظيميًا كبيرًا.
يختم هيني هذا الجزء بالتأكيد على أن هذه التغيّرات التراكمية مكّنت الهيئة من تقليص المعارضين داخلها، وصولًا إلى مرحلة احتكار شبه كامل للمشهد العسكري والمدني في إدلب ومحيطها، وهو ما يُمهّد، برأيه، لفصل جديد من صراع طويل لم يقل كلمته الأخيرة بعد.
