بعد الاعتراف بوجود الحق والباطل ومعرفة تأثير كل منهما في تقرير مصير الفرد والمجتمع، علينا الان أن نفكر جيداً: كيف يجب أن نكون أمام الحق والباطل ؟ وعلى أي أساس نتخذ مواقفنا لكي نبلغ النضج والتكامل الحقيقي؟
اذن، ينبغي قبل كل شيء التوصل الى المعرفة والوعي اللازم. واذا كانت معرفة الحق أمراً ممكناً، فلماذا ينبغي بذل كل هذه الجهود والمشاق؟ كالذين يتوصلون أحياناً، بعد سنين طوال، الى أن الفرضية أو النظرية الفلانية باطلة ولا حقيقة لها؟
إن الإجابة الصحيحة والشافية عن هذه الأسئلة نصل اليها من دراسة قضيتين أساسين هما:
أولاً: سبل معرفة الحق والباطل، وكيفية التعرف على الحقيقة.
ثانياً: معرفة الموانع التي تحول دون ادراك الحقائق، والتي تجب ازالتها.
فلو ادرك الإنسان السبل الصحيحة والمقاييس الضرورية لمعرفة الحق والباطل، وفهم الحقائق فهماً صحيحاً، وقام بدراستها وتقويمها، واجتث من قلبه ونفسه جذور موانع معرفة الحقيقة، وأزال العقبات الخارجية التي تقف في طريق بحثه ومعرفته، لما كان ثمة شك في أنه سيشاهد وجه الحقيقة الناصع ولا يعود يدخل ميادين النزاع والجدل والمعارضة في ذلك مع سائر بني البشر، ويخلص البشرية، بالوحدة والتعاون، من كل أنواع الاعوجاج والانحراف الفكري. يقول الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن:
(أيها الناسُ، مَنْ سَلَكَ الطَّريقَ الواضِحَ وَرَدَ الماءَ، وَمَنْ خالَفَ وَقَعَ فِي التِّيهِ).
ولمعرفة الحقيقة علينا الاهتمام اهتماماً كاملاً بضرورة السعي والعمل المستمر: ضرورة الصبر والثبات وتحمل المشاكل في سبيل بلوغ الحق.
ولهذا السبب نجد أن كثيراً من علماء الشرق ومفكريه، الذين توصلوا الى الحق من خلال بحوثهم العلمية، لا يجرأون على اعلانه وعرضه على الناس، لأنهم لا يودون ان يسجنهم الحكام الاشتراكيون أو تبلى أجسامهم في معسكرات الأعمال الشاقة. ان الحق والحقيقة لا يظهران من تلقاء نفسيهما في كل زمان ومكان وفي مختلف الظروف والأحوال، بل ينبغي التوصل إليهما بالبحث والتنقيب وبالطرق الخاصة لمعرفتهما، وعدم ابعاد دلائلهما الأصيلة عن النظر، بل بلوغهما بالسعي المستمر، لكي نشاهد بأم أعيننا الوجه الحقيقي للحقيقة فبعد الاحساس بالحقيقة وادراكها ومشاهدتها متمثلة في النظام العام، والهدفية في خلق المخلوقات، والقوانين التكاملية الدائمة والشاملة فلماذا لا يقبل الجميع بالحق؟ قلنا أن الحق والحقائق الثابتة أمور موجودة ويمكن تعرفها، فهل تكفي هذه المعرفة وحدها؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فلماذا لا يقبل الكثيرون بالحق الذي اثبتته الدلائل؟ بل يختلفون فيه ويتنازعون حوله ؟ لماذا لا يرضخون للحقيقة؟ بل يدبرون عن الحق، ولا يعملون به مع معرفتهم به؟ ولماذا يبدو الحق مراً وثقيلاً عند كثير من الناس؟ أهناك نقص أو عيب في الحق حتى يقل انصاره أم ينبغي أن نتملس اسباب ادبارهم عنه في عجز الانسان الفكري وتبعيته النفسية؟ يجب ألاّ نعزو مخالفات الانسان وتهربه من الحقيقة الى ضعف الحق وعجزه إن ما نشاهده اليوم على صعيد المجتمعات البشرية من الإعلام المكثف والواسع جعل الجميع يدركون خطر الادمان على المخدرات، واضرار الكحول، واخطار الفساد الخلقي، فلماذا لا يتخلون عنها؟ فهل يصح القول بأن المفاسد الأخلاقية حق لأن الناس يقبلون عليها. وهل يصح القول بأن التعليمات الصحية الكاملة والصحيحة باطلة لأن الناس يدبرون عنها؟ من البديهي أن أحقية الحق والباطل لا علاقة لها بميول الناس وسلوكهم. هناك فئة تؤيد الباطل وهي لا تعلم، بل تظن أنها على صواب . وثمة فئة أخرى تؤيد الحق، وترغب في نصرته وادراكه، وهي تبذل الجهود لادراك الحق أيضاً، لكنها في منتصف طريق البحث، تقع في شراك الشيطان الخادعة واغراءات رفاق السوء، فتنجرف عن جادة الصواب، وتذهب لتؤيد الباطل بدل الحق، ظانة أنها قد عرفت الحق وبلغته، فيما هي تناصر الباطل المتلبس بلباس الحق، تبقى تدافع عن باطلها باسم الحق حتى إذا أصابها الهلاك في سبيل ذلك. وهناك فئة ثالثة تبحث عن الباطل بسبب أهوائها النفسية وانحرافاتها الأخلاقية، وتبذل المساعي من أجل إدراكه، وتدركه في النهاية ولا يخطر ببالها أبداً طلب الحق. وهذه الفئة هم جنود يزيد في كربلاء، فقد رأوا أحدهم يقتلع حلية من أُذن احدى بنات الإمام الحسين عليه السلام وهو يبكي، فسألوه (لماذا تبكي؟) قال: (قد رقَ قلبي لمصائبكم) فقالوا له: (إذا كان الأمر كذلك فلا تسلبنا! ولا تؤذنا! ولا تنهب أموالنا!) فأجاب: (اننا جئنا لنعود بالغنائم الى أهلنا، فإذا لم أسلبكم أنا لسلبكم غيري. وهنا سأقول لك ( كيف ستواجه الحق ).
