تُعد “موضوعة التفكير” من الموضوعات التي نالت وما تزال تنال اهتمام عدد كبير من العلماء والباحثين في مجالات متعددة، نظراً لتداخلها مع العديد من العلوم والفروع المعرفية. فقد تأثر إدراك الإنسان (أو التفكير) بعدد من الحقول، أبرزها: علم الفسيولوجيا (وهو العلم المعني بوظائف الأعضاء البشرية)، وعلم النفس (لا سيما في تطور نظريات العقل والذكاء)، ونظرية المعرفة (الإبستيمولوجيا)، التي تُعد فرعًا فلسفيًا يركز على تحليل المعرفة ومصادرها.
وقد ساهم كلٌّ من علم النفس المعرفي والإبستيمولوجيا في تعميق فهمنا لمفهوم “التفكير” والميول المصاحبة له مثل الانتباه والدافعية. كما أن لعلم النفس الحيوي، مدعومًا بالطب النفسي والعقلي، وعلم الأعصاب، وعلم الأدوية، دورًا مهمًا في رسم صورة أوضح للدماغ البشري والعمليات المرتبطة به. فعلى مدى سنوات طويلة، حاول العلماء تحديد وظائف الدماغ البشري وربطها بمناطقه المختلفة. وبالرغم من أن الدماغ في مظهره – بتجاعيده الرمادية – قد يبدو ساكنًا، إلا أن الأدلة السريرية والتجارب المخبرية ساعدت على تثبيت وجود وظائف محددة في مناطق بعينها.
فعلى سبيل المثال، تم تحديد منطقة “بروكا” المسؤولة عن الكلام، بينما ترتبط أجزاء من المخيخ – والتي تقع أعلى وأمام الدماغ – بالنشاط الذهني. وفي عام 1921، أعلن أحد علماء التشريح العصبي اكتشافًا مهمًا، مفاده أن الخلايا العصبية في الدماغ متلاصقة بشدة ولكنها لا تتصل ببعضها فيزيائيًا. ولاحقًا، سمحت التطورات التقنية الحديثة بمراقبة تدفق الدم إلى القشرة المخية، مما أتاح فهماً أكثر دقة لكيفية عمل الدماغ أثناء التفكير.
حقائق أساسية حول الدماغ والتفكير
- رغم التقدم العلمي، لا يزال الكثير مجهولاً عن كيفية عمل الدماغ، مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعلان عقد التسعينات “عقد الدماغ”.
- يحدث معظم النمو الدماغي في مرحلة الطفولة المبكرة، إذ يبلغ حجم الدماغ عند الأطفال في عمر الست سنوات نحو 90% من حجمه عند البالغين. وهذا ما يشير إلى أهمية التدخل المبكر في التحفيز الذهني، حيث يكون أكثر تأثيرًا.
- على الرغم من ارتباط مناطق معينة في الدماغ بوظائف محددة، يبدو أن أجزاء كبيرة من القشرة الدماغية (المعروفة بـ Thinking Cap) تعمل كمخزن عام مشابه لذاكرة الحاسوب، وتُفعّل عند أداء الأنشطة الذهنية العليا.
وتشير الأبحاث إلى وجود علاقة تبادلية بين عمل المخيخ والوظائف العقلية التي يؤديها، حيث تتطور هذه التوصيلات عند التحفيز المستمر. كما وفرت النظريات النفسية روابط مهمة بين فسيولوجيا الدماغ والتفكير، من خلال نقد التصورات التقليدية حول الذكاء.
نظريات الذكاء وتطورها
في النصف الأول من القرن العشرين، ساد الاعتقاد بوجود “ذكاء عام فطري” ثابت يمكن قياسه عبر اختبارات IQ. غير أن هذا الطرح تعرض للتشكيك من اتجاهين: أولهما ما عُرف بـ “تأثير فلاين”، والذي أظهر أن معدل الذكاء يمكن أن يتغير بمرور الزمن، وثانيهما أن الذكاء ليس فقط نتاجاً للموروثات الجينية.
وقدمت دراسات علم النفس المعرفي رؤى بديلة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. كان لعالم النفس السويسري “جان بياجيه” تأثير كبير على إعداد المعلمين، حيث اقترح أن الأطفال يمرون بمراحل مميزة من التفكير، تتسم كل منها بأنماط معرفية وسلوكية محددة، بغض النظر عن بيئتهم الثقافية أو الجغرافية. وهذا يقتضي أن تكون التدخلات التعليمية متوافقة مع مراحل النمو العقلي.
من جانب آخر، أكد علماء نفس معرفيون مثل “جيروم برونر” على الدور النشط للمتعلم، وربطوا عملية الاستدلال ببناء الخبرات الذاتية، بحيث يصبح التعليم عملية منظمة لإضفاء المعنى على المعرفة. وفي عام 1983، عرض “هوارد غاردنر” نظريته في “الذكاءات المتعددة”، حيث اقترح وجود سبعة أنواع من الذكاء (وربما أكثر)، تشمل الذكاء اللغوي، المنطقي الرياضي، الموسيقي، المكاني، الحركي وغيرها.
دلالات تربوية لتعليم التفكير
انطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن استخلاص مجموعة من الدلالات المهمة لتعليم مهارات التفكير، منها:
- يُنظر إلى الدماغ بوصفه أداة قابلة للتطوير بالتحفيز المستمر.
- يجب على المعلمين دعم المتعلمين تدريجيًا وتقديم تغذية راجعة مناسبة تراعي الفروق الفردية.
- التعلم يكون أكثر فاعلية عندما يشارك فيه المتعلمون بفعالية، داخل بيئة اجتماعية تضفي معنى على تجاربهم.
وقد وصف “فرانسوا” (1999) العمليات المعرفية للذكاء على أنها “صندوق أدوات” يستخدمه الفرد في “لعبة الإدراك”، حيث لا يمتلك الجميع الأدوات ذاتها، لكن يمكن تحسين طريقة استخدامها بالتدريب. وإذا كان التفكير قابلًا للتطوير، فإن على المعلمين أن يجعلوا من عمليات التفكير عملية مرئية ومعلنة، باستخدام طرق تدريس تتداخل مع عمليات التفكير ذاتها، بما يعزز وعي المتعلمين بذاتهم كمفكرين قادرين على معالجة المعرفة وابتكارها.
التعليم والتفكير في مجتمع المعلومات
إن مجتمع المعلومات الذي نعيشه اليوم، وبعد مرور ربع قرن على بداية القرن الحادي والعشرين، يتطلب إعادة نظر في دور المؤسسات التعليمية. فلم يعد يكفي التركيز على تعليم المهارات الأساسية كالمطالعة والكتابة، بل يجب أن يمتد الاهتمام إلى تعليم مهارات التفكير بشكل موازٍ.
لقد بات من الضروري أن يتمكن المتعلمون من التفاعل مع بيئاتهم المتغيرة بسرعة، وهذا ما يتطلب مناهج أكثر مرونة وتفاعلية. في هذا السياق، فتح استخدام ألعاب الكمبيوتر مجالًا واسعًا لتوظيف استراتيجيات التفكير، لا سيما من خلال المحاكاة والبرمجة ولغات الحاسوب
