يعّرف ” فريديرك راتزل” الحدود الجغرافية للدّول بأنها المظهر الخارجي لسلطة الدولة وأبرز عناصر السيادة الوطنية . إذ تمثّل خط الدفاع الأول في وجه التهديدات الأمنية والعسكرية والإقتصادية والحلقة الأساسية في ضبط العلاقات مع المحيط الإقليمي والدّولي .
وفي السياق اللبناني، تكتسب قضية الإدارة الأمنية للحدود أهمية إستثنائية نظرا” لتعدّد التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة بدءا” من هشاشة الوضع السياسي مرورا” بتردّي الأوضاع الإقتصادية وصولا” إلى التهديدات القائمة من الأزمات الإقليمية المحيطة .
لبنان، بموقعه الجيوسياسي يشكّل نقطة إلتقاء بين مناطق الصراع في المشرق العربي من الحدود السورية المعقّدة شمالا” وشرقا” إلى الحدود الجنوبية المحتلة من قبل إسرائيل وصولا” إلى ساحله البحري المفتوح على المتوسط لجهة الغرب .هذه المعطيات تفرض تحديات أمنية غير تقليدية لا سيما في ظلّ هشاشة الدولة ومحدودية قدراتها الأمنيّة.
يهدف هذا المقال إلى تحليل واقع الإدارة الأمنية للحدود اللبنانية ،ويركّز على التحديات التي تفاقمت بفعل الأزمات الإقليمية الكبرى بشكل خاص مع تقديم رؤى حول سبل تعزيز قدرات الدولة في حماية حدودها خصوصا” في مرحلتين حساستين من التاريخ الإقليمي :
الخصوصية الجغرافية والسياسية للحدود اللبنانية
يمتلك لبنان حدودًا برية يبلغ طولها الإجمالي حوالي 484 كيلومترًا، منها حوالي 375 كيلومترًا مع سوريا، و79 كيلومترًا مع فلسطين المحتلة. وتُعد هذه الحدود من الأكثر تعقيدًا في المنطقة لأسباب عدة، أهمها:
واقع الإدارة الأمنية للحدود اللبنانية
تتوزع المسؤولية عن إدارة الحدود اللبنانية بين عدة جهات رسمية، أبرزها:
ورغم هذا التوزيع المؤسسي، تعاني الإدارة الأمنية من ضعف التنسيق بين الجهات، إلى جانب نقص في الموارد البشرية والتقنية.
نقاط القوة الحالية:
انتشار الجيش اللبناني على الحدود الشمالية والشرقية، خاصة بعد عملية “فجر الجرود” في المرحلة الأولى عام 2017 التي أنهت وجود التنظيمات الإرهابية على الحدودالشرقية إلى جانب الدعم الدّولي للجيش كونه يمثّل القوة الوطنية الموحدة والمؤسسة الأكثر تنظيما” في الدولة التي أثبت قدرتها على التكيف مع مختلف التحولات السياسية وجنبت البلاد الدخول المباشر في نزاعات كبرى داخلية وخارجية استطاع من خلالها الحفاظ على استقرار نسبي وشكّل الجهة الضامنة لتطبيق القرار١٧٠١ وبسط سيادة الدولة واستعادة نفوذها المسلوب بقوة السلاح غير الشرعي .
نقاط الضعف:
تعدد المعابر غير الشرعية مع سوريا التي تقدّر بأكثر من 120 معبرًا بفعل طبيعة الحدود المعقودة جغرافيا“ الأمر الذي أدّى الى تضييق عملية السيطرة وفاقم الضعط الناتج عن وجود النازحين السورييون اثر الحرب السورية ٢٠١١ حيث استخدمت بعض المخيمات كنقاط عبور او تهريب او نقاط تمركز لجماعات ارهابية والآن بتداعيات اعادة تشكيل المشهد الأمني الحدودي بعد سنوات من الفوضى في ظل غياب اتفاقيات حدود واضحة و أجهزة رقابة أمنية متطورة مثل الطائرات بدون طيار أو أنظمة الرادار في معظم النقاط الحدودية ،أضف إلى ذلك هشاشة الوضع الاقتصادي التي أثّرت “سلبا” على الجهوزية اللوجستية والأمنية للمؤسسة العسكرية وأضعفتها فضلا” عن انتشار الفساد الإداري المتأصل في بعض النقاط الحدودية .
تحولات ما بعد عدوان تموز ( 2006 وحتى 2020)
مثّل عدوان 2006 نقطة تحول أمني، فزادت التوترات مع الاحتلال، وفرض القرار 1701 الذي قضى بانتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني، بالتنسيق مع اليونيفيل.
رغم ذلك، بقيت الحدود الجنوبية معرضة للخروقات الجوية والبرية، بينما استُخدمت الحدود الشرقية لتمرير السلاح والتموين وتزايد نشاط شبكات التهريب والاتجار بالبشر والكبتاغون التابعة لحزب الله، مما خلق حالة من التداخل بين الأمن الرسمي والأمن غير الرسمي الذي يرتكز في نشاطه على الاقتصاد الاسود او اقتصاد الجريمة.
في هذه الفترة، وُضعت اللبنات الأولى لإنشاء أبراج مراقبة، وتعزيز الانتشار الحدودي، ولكن ظل غياب الدعم السياسي الكامل والارادة الوطنية عائقًا.
الأزمة السورية وسقوط سيطرة النظام على الحدود (2011-2021)
تدفّق على أثرها أكثر من مليوني نازح سوري، معظمهم عبر المعابر غير الشرعية، ما شكل ضغطًا كبيرًا على الأمن والاقتصاد والبنية التحتية.
كما برزت مناطق مثل عرسال والقاع كرأس حربة لتسلل الجماعات الإرهابية (داعش، النصرة). استُخدمت هذه المناطق كمنصات للهجوم على مراكز الجيش اللبناني.
في العام 2017، أطلق الجيش اللبناني عملية عسكرية ناجحة ضد داعش في جرود رأس بعلبك والقاع، أدت إلى تحرير كامل الأراضي الحدودية من الإرهاب، وأعادت تعزيز سلطة الدولة على جزء كبير من الحدود.
التحولات بعد قيام نظام الشرع في سوريا (2022-2024)
أدى قيام نظام سياسي جديد بعد سنوات من الفوضى إلى عودة نوع من الاستقرار النسبي في المناطق الحدودية السورية مثل القصير، جوسيه، والزبداني، أصبحت تحت سيطرة مركزية، ما سهل التنسيق الأمني ولكن زاد من تعقيدات سياسية مع بعض القوى اللبنانية.
بدأت عملية عودة محدودة للاجئين، لكن عددًا كبيرًا من النازحين غير النظاميين بقوا في لبنان، ما يبقي على حالة التوتر الأمني وتقلص حجم عمليات التهريب التي لطالما شكلت تحديًا لأجهزة الأمن لعقود من الزمن.
عدوان أيلول 2024 – تداعياته على الحدود اللبنانية
في أيلول 2024، شنّت إسرائيل عدوانًا واسع النطاق على لبنان، تركّز على مناطق نفوذ حزب الله لاسيما في الجنوب والبقاع، بذريعة تدمير بنى تحتية للحزب وبهدف القضاء على السلاح غير الشرعي الذي كان له تأثيرات أمنية محلية واقليمية .
استهدفت الغارات مقرات أمنية ومعابر شرعية، ما أحدث فراغًا أمنيًا كبيرا” استغلته شبكات تهريب ومجموعات مشبوهة.
أثر ذلك أعاد الجيش اللبناني نشر قواته في الجنوب، بدعم من المجتمع الدولي، وتم تعزيز المراقبة على الحدود الجنوبية والشمالية والشرقية ، وأعادت اليونيفيل تقييم مهمتها بالتعاون مع الجيش لتطبيق القرار ١٧٠١.
من هنا، إنّ التحديات الأمنية في ظل الأزمات الإقليمية المتواصلة تعد من القضايا الحيوية التي أثّرت بشكل مباشر على استقرار لبنان وأمنه القومي. ويمكن تناول هذه التحديات من خلال النقاط التالية:
هذا ما يجعل من تعزيز الإدارة الأمنية للحدود أولوية وطنية لحماية السيادة وضمان الاستقرار الداخلي. وفي هذا السياق، تأتي هذه الاستراتيجية المقترحة كإطار متكامل يهدف إلى تطوير منظومة أمن الحدود عبر تمكين المؤسسات الأمنية، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، وتعزيز التعاون المحلي والدولي، بما يواكب التهديدات المستجدة ويؤسس لإدارة حدودية فعالة ومستدامة.
إنّ الإدارة الأمنية للحدود اللبنانية تُعد ملفًا استراتيجيًا من الدرجة الأولى، يتداخل فيه الأمني بالسياسي بالاقتصادي. مرّت الحدود اللبنانية بمراحل حرجة إذ مثّلت مسرحا” مستمرا” لصراعات إقليمية كانت مرآة لعجز الدولة المزمن في فرض سيادتها الكاملة .من عدوان تموز 2006، ومن ثم بعد تفكك الدولة السورية مناطق واسعة، حيث تحولت إلى ممرات خطرة للتهريب والإرهاب.
أما اليوم أثبت عدوان أيلول 2024 وتحولات سوريا السياسية، انّ الإدارة الأمنية واقعا” لا يمكن فصله عن السياق السياسي العام، وأن التحديات تتطلب حلولًا أمنية وتنموية متوازنة في ظل الضغوطات السياسية والاقتصاديةالاقليمية والدولية . المطلوب هو رؤية شاملة تدمج الأمن بالتنمية، وتعتمد على استقلالية القرار الأمني اللبناني، والشراكة مع المجتمع الدولي ضمن أولويات سيادية واضحة.
