عين الرئاسة الأميركية على قناة بنما: ماذا وراء الاهتمام المتزايد؟

تُعتبر قناة بنما ثاني أهم معبر مائي من صنع الإنسان من بعد قناة السويس، ومن أعظم الانجازات الهندسية في القرن العشرين. تكمن أهميتها في أنها تربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادىء وتشقّ اليابسة التي تصل بين الأميركيتين فاسحةً المجال لمرور أكثر من 14000 سفينة سنويًا، على رأسها السفن الأميركية والصينية واليابانية. ولكن إذا كانت هذه القناة المعجزة تقع في بنما أي ضمن إقليم جمهورية مُستقلّة في أمريكا الوسطى، فلماذا يُهّدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب باستعادتها، وهل تمتلك الولايات المتحدة الأميركية الحق باتّخاذ هكذا خطوة وفقًا لقواعد القانون الدولي؟

في الواقع، تُعَد قناة بنما شرياناً هامًا للاقتصاد والتجارة الأميركية. إذ قبل بناء هذه القناة، كان يتوجّب على السفن المُسافرة بين السواحل الشرقية والغربية للولايات المتحدة الإبحار حول أميركا الجنوبية عبر مضيق ماجلان، الأمر الذي كان يستغرق أشهرًا. من هنا، ساهمت القناة في اختصار مدة هذه الرحلة إلى بضع ساعات فقط، مما سمح بحركة أكثر كفاءة للبضائع وبخفض تكاليف الشحن. وتُعتبر الولايات المتحدة الأميركية أكبر عميل للقناة، فهي مسؤولة عن حوالي ثلاثة أرباع البضائع التي تمر عبر هذا الممر المائي كل عام.

أما عن علاقة الولايات المتحدة الأميركية بملكية هذه القناة فهنا نُشير إلى أنّ هذه الأخيرة تم بناؤها من قبل الأميركيين في بداية القرن العشرين وبقيت تحت ادارتهم حتّى عام 1999، حين تمّ تسليمها الى السلطات البنامية تنفيذًا لاتفاقيتين تم توقيعهما عام 1977 بين الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر والزعيم العسكري البنمي عمر توريخوس. فقد نصت الاتفاقية المعروفة باسم معاهدة الحياد في مادتها الخامسة على أنه “بعد إنهاء معاهدة قناة بنما، لا يجوز إلا لجمهورية بنما تشغيل القناة والحفاظ على القوات العسكرية والمواقع الدفاعية والمنشآت العسكرية داخل أراضيها الوطنية“. وضمنت هذه المعاهدة الحياد الدائم للقناة وبقائها في متناول جميع الدول دون تمييز في أوقات السلم والحرب بالنظر إلى موقعها الحساس. وقد احتفظت الولايات المتحدة الأميركية بحق وحيد وهوحق الدفاع عن هذا الممر المائي إذا تعرض للتهديد من قبل أي معتد أجنبي. مما يعني أنه بموجب المعاهدتين الموقّعتين بين الدولتين البنامية والاميريكية عام 1977، انتهى دور الولايات المتحدةالأميركية فيما خص إدارة قناة بنما عام 1999.

من هنا، يمكن القول أن التدخل الأميركي في حالة القناة البنامية يكون مشروعًا فقط فيما لو خرقت السلطات البنامية مبدأ الحياد أو في فيما لو تعرّضت القناة إلى خطرٍ يهدد حيادها أو أمنها. وفي هذا الاطار اعتبر الرئيس الأميركي ترامب أن بنما خرقت بنود المعاهدتين فيما خص الحياد من خلال زيادة رسوم العبور من القناة بشكل تعسفي وتمييزي على السفن الأميركية فقط، مما يُعتبر تمييزاً في المعاملة، خصوصًا وأنّ السلطات البنامية لم تفرض هذه الزيادة على سفن الدول الأخرى وتحديدًا الصين التي ازدهرتاستثماراتها في المناطق المحيطة بالقناة، بموافقة السلطات البنامية.إذ تم بناء عدة موانىء عند مدخلي القناة من قبل شركات صينية، وهو ما اعتبره الرئيس الأميركي ترامب بأنه “تنازل من بنما عن القناة لصالح الصين ولذلك ينوي استعادتها. ومن هنا اكّد البعضعلى أن ما يحصل في بنما من سيطرة صينية وتمييز في المعاملة يُضفي المشروعية على أي تصرف تتخذه الولايات المتحدة الأميركية حيال القناة البنامية.

في هذا الاطار، واذا ما اطّلعنا على مضمون المعاهدتين الموقّعتَين بين بنما والولايات المتحدة الأميركية المذكورتين أعلاه نجد أنّه وفقا لقواعد القانون الدولي ليكتسب التدخل الأميركي العسكري أو غير العسكري في بنما المشروعية، لا بُدّ من حصول أحد أمرين أو كلاهما: تعرّض القناة لتهديد خارجي أو فقدانها الحياد نتيجة لتصرفات السلطات البنامية، فيما عدا ذلك يعتبر أي تصرُّف متّخذ خرقًا للسيادة البنامية وتدخُّلًا في شؤونها الداخلية؛ كما وانتهاكًا لمبدأ عدم جواز استخدام القوة في العلاقات الدولية فيما لو تم اللجوء الى القوة العسكرية. وحتى تاريخه لا اجماع حتى في الداخل الأميركي حول تحقُّق أي من هذين الشرطين في ظل تأكيد الرئيس البنامي على أنّ التواجد الصيني ينحصر بعدد من الاستثمارات وأنّ القناة تُدار حصرًا من السلطات الوطنية دون أي تواجد لجنود صينيين.

إضافةً إلى كل ذلك، يُمكن التأكيد على أنه حتى في حال تمّ اثبات السيطرة الصينية على القناة وبالتالي تمّ خرق مبدأ الحياد المُتّفق عليه في معاهدة عام 1977، لا يُوجد أي نص يُفسح في المجال أمام الولايات المتحدة الأميركية لاستعادة القناة من جديد، فكل ما يمكنها القيام به هو التدخل للدفاع عن هذا الممر المائي وليس للسيطرة عليه؛ فالقناة البنامية لم تكن يومًا ملكية أميركية وانما كانالأميركيون مسؤولين عن إدارتها.

أمّا فيما خص التلويح بامكانية الانسحاب من المعاهدتين اللتين استعادت بموجبهما بنما القناة فهو أيضّا مخالف لقواعد القانون الدولي وتحديدًا للجزء الخامس من اتفاقية فيينا لعام 1969 الذيينص صراحةً على أنه باستثناء حالة حدوث إخلال جوهري أو تغيير جذري في الظروف التي تمّ على أساسها إنشاء المعاهدة ، فإنّ إنهاء المعاهدة أو الانسحاب منها يحتاج إلى موافقة كلأطرافها. مما يسمح بالقول أنه لا يحق للولايات المتحدة الأميركيةالانسحاب من المعاهدة أو فسخها بصورة منفردة إلّا في حال تمكّنت من اثبات فقدان القناة للحياد بشكل قاطع لا لبس فيه.

خلاصة القول، إنّ أي قرار يتعلّق بقناة بنما، وتحديدًا بالمعاهدتين الموقّعتين عام 1977، لا بد من أن يخضع لقواعد القانون الدولي تفاديًا لتحوّل الصراع الأميركي-الصيني الاقتصادي إلى صراع عسكري نتيجته زعزعة السلم والأمن الدوليين الذين يشكلان حجر الزاوية لاستقرار المجتمع الدولي.