القوة الناعمة : ركيزة لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع – لبنان نموذجا”.

يعرّف جوزيف ناي ” القوّة الناعمة ” بأنّها القدرة على الجذب عن طريق الإغراء ” أي القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية لا عن طريق الإكراه أو دفع الأموال . تقوم على ثلاثة ركائزثقافتها في الأماكن التي تجذب فيها الآخرين ،وقيمتها السياسية عندما ترقى إليهم في الداخل والخارج. وسياستها الخارجية عندما يراها الآخرون شرعية وأخلاقية.

تشّكل القوّة النّاعمة أحد الأدوات الرئيسية التي يمكن أن تسهم في إعادة الإعمار بعد النزاعات ،إذ تتجاوز الأدوات التقليدية القائمة على القوة العسكرية لتوظّف أدوات أخرى غير مباشرة (ثقافية ،إعلامية ،دبلوماسية ،إقتصادية) .

القوة الناعمة كأداة لإعادة الإعمار في لبنان

يمثل لبنان نموذجا” بارزا” وحيويا” لفهم دور القوة الناعمة في مرحلة ما بعد النزاع . فقد شهدت البلاد على مدى العقود الماضية سلسلة من الحروب والنزاعات خلّفت العديد من التحدّيات الإقتصادية والاجتماعية والسياسية. في هذا السياق تشكل القوّة الناعمة ركيزة أساسية للتأثير غير المباشر في تحقيق الأهداف  وإحياء المجتمعات المتضررة وإعادة البناء وتعزيز الإستقرار.

كيف تمّ توظيف القوة الناعمة في إعادة بناء المجتمع اللبناني ؟

المساعدات الإنسانية والتنموية: التي قدمتها الدول المانحة في لبنان ( الحرب الأهلية ١٩٧٥-١٩٩٠) و( حرب تموز ٢٠٠٦) و( تفجير مرفأ بيروت ٢٠٢٠) أسهمت في تعزيز الدور الدبلوماسي والاقليمي المتبادل وعززت العلاقات الدولية ، إلى جانب دور الإعلام والمنظمات غير الحكومية التي لعبت دورا” بارزا” في رفع الوعي بالقضايا الإنسانية وتعزيز الحوار بين الطوائف ونشر السلام .
تعزيز الهوية الثقافية والمصالحة الوطنية : أسهمت الثقافة والفنون في تعزيز المصالحة والإنصهار الوطنية بعد الحرب الأهلية من خلال المسرح والموسيقى وعززت الإستقرارالإجتماعي بين الطوائف والمناطق إلى جانب برامج التعليم ودعم البحث العلمي وبناء القدرات مع جيل جديد قادر على مواجهة التحديات والإنفتاح على الخارج .
تنشيط الإقتصاد المحلي وتعزيز التنمية الإقتصادية: تشجيع الإستثمار الأجنبي القائم على معايير بيئية اجتماعية مستدامة وتقديم منح وقروض ميسّرة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
التخفيف من الصدمات النفسية والإجتماعية : من خلال دعم برامج إعادة التأهيل النفسي و الرياضة كوسيلة لتعزيز السلام في المجتمعات التي تتأثر بالصراعات.

التحديات التي تواجه القوّة الناعمة في لبنان

الفساد وضعف المؤسسات: يقلل من فرص الإستجابة في المجتمعات المحلية ويحدّ من فعالية مؤشرات القوة الناعمة.
ضعف التمويل المستدام : نقص الموارد المادية الذي يؤدي إلىصعوبة إستمرارية الدعم .
التوترات الطائفية والسياسية: تؤثر سلبا” على الجهود الرامية لتحقيق المصالح والإستقرار.

وفقًا لمؤشر “القوة الناعمة” لعام 2023 الصادر عن مؤسسة “براند فاينانس”، احتل لبنان المرتبة 89 عالميًا.

يُلاحظ أن ترتيب لبنان في هذا المؤشر يعكس التحديات التي يواجههافي تعزيز تأثيره الثقافي والدبلوماسي والاقتصادي على الساحة الدولية ، يرجع ذلك إلى عدة عوامل طالت كل من المشهد الداخلي والخارجي ودفعت به إلى عزلة دبلوماسية وتراجع العلاقات الدولية بفعل تزايد نفوذ حزب الله في السياسة اللبنانية ومشاركته في النزاعات الاقليمية ،الأمر الذي أدّى إلى توتر العلاقات مع العديد من الدول العربية والغربية، خاصة دول الخليج، التي فرضت قيودًا اقتصادية وسياسية على لبنان وتقلّص دعمها له .

من جهة أخرى أدّت زيادة الضغوط الدولية إلى تبديد صورة لبنان كدولة حيادية منفتحة وإضعاف قدرته على إستخدام القوة الناعمة بفعالية فكانت سببا” في هروب الاستثمارات وتراجع القطاع السياحي وتقويض صورته الثقافية وتراجع حرية التعبير وتعميم خطاب التخوين فضلا” عن إنهيار قطاعه المصرفي  وتراجع تصنيفه المالي على المستوى الدولي ..كل ذلك قلل من جاذبية لبنان بعدما كان نموذجا” للديمقراطية في المنطقة.

ختاما..في عالم تتزايد فيه أهمية التأثير غير المباشر تعتمد الدّول المتقدّمة على مزيج من أدوات القوة الناعمة لتعزيز مكانتها و قوتها  في تشكيل السياسات والعلاقات الدولية .من هنا إنّ استعادة لبنان لدوره يتطلب إعادة التوازن في سياسته الخارجية، وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتعزيز الحريات التي كانت أساس قوته الناعمة في الماضي . تحسين هذا الترتيب يفرض الالتزام باستراتيجيات فعّالة لتعزيز عناصر القوة الناعمة تشكل خارطة طريق للنهوض من الأزمات يستعيد بها ثقة المجتمع الدولي .