الأدب الجاهلي: أساسٌ متينٌ للغة حيّة

 

إذا كانت اللغة تعبر عن الخصوصية الثقافية لحضارة ما، فإن الأدب الجاهلي استطاع تجاوز هذا المنظور ليؤطر إلى لغة حضارية، وخصوصية ثقافية لأمة العرب، فضلًا عن منح العرب تعبيرات لغوية تعبّر عن نمط حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك بيئتهم وما حوته، وهي بذلك تعدّ نوعًا من التنظيم أو البناء الخاص الذي وحّد العرب في نظام تواصلي واحد، هو النظام اللغوي الذي أصبحوا ينسبون إليه، ويمتازون بين العالمين به.
إن هذه العلاقة الوثيقة بين الأدب الجاهلي والنظام اللغوي الذي تبلور بفضله، فتح المجال لدراسة علاقة اللغة بالمجتمع وبالثقافة، وهنا يأتي الأدب الجاهلي ليمثّل المدوّنة الرئيسة التي تنبني عليها تلك الدراسات، وكذلك، فإن الأدب الجاهلي؛ شعرًا ونثرًا يمثّل سجلًا رئيسًا يُستقى منه كل ما يتعلّق بالحضارة العربية الجاهلية وملامحها، وإنَّ العرب، فيما بعد، اعتمدوا عليها وبنوا وفقها مفرداتهم ومعانيهم، وما يثبت ذلك أنّ الأدب الجاهلي يستحوذ على النصيب الأوفى من الاستشهاد اللغوي، فهل يمكن أن نستشهد للغة عريقة بغير ديوان ثريّ في مفرداته ومعانيه وصوره من جهة، وحافل بتصوير الحياة بكل وقائعها من جهة أخرى؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال يوثّقها الأدب الذي تبع الأدب الجاهلي، فلم يكن للأدب الإسلامي أن يكون من دون اتكائه على الأدب الجاهلي، وما كان للأدبين الأموي أو العباسي أن يكوِّنا تلك الحاضنة العملاقة للمنجزات اللغوية والمعارف المختلفة التي طُرّزت بحروف العربية التي شبّ عودها وتألقت في العصر الجاهلي.

فضلًا عن ذلك، فإن الأدب الجاهلي حمل إلى اللغة العربية مخزونًا ثقافيًا لغويًا، تمثّل في الشعر الذي حمل في طياته أحداثًا ووقائع وقصصًا وأمثالًا، وأرَّخ لوقائع مشهودة في ذلك العصر، ولذلك قيل “الشعر ديوان العرب” وكذلك هو الحال بالنسبة إلى النثر في الأدب الجاهلي الذي عبّر عن انفتاح اللغة على الفكر واستيعابها ألوانًا عديدة من الأدب، هي تلك الفنون التي نشأت أو ربما ظهرت وقُنِّنت لاحقًا، في العصور المتلاحقة. وإذا تتبعنا المعاجم اللغوية التي انبنت في عصر النهضة اللغوية، سنجدها، أيضًا، تتكئ على الأدب الجاهلي في رفد أبوابها وفصولها بالمفردات والمعاني والشواهد.

لذلك فإن الأدب الجاهلي يبقى الأساس المتين الذي ارتكزت عليه اللغة العربية وما ارتبط بها من دراسات وعلوم، وله الفضل في تمكين اللسان العربي من القدرة على التعبير والتواصل، والحفاظ على سيرورتها وقدرتها على احتضان العلوم والفنون عبر العصور المتلاحقة.