من الدهشة إلى الوحشة: كيف غيرت التكنولوجيا تواصلنا؟

كغيري من أوائل جيل الألفية أو ما يعرف بجيل “Millennials” واكبت تلك اللحظة التي اقتحمت التكنولوجيا الرقمية حياتنا بكثير من الدهشة، بدأت علاقتي بهذه العوالم الجديدة مع ألعاب الأتاري الإلكترونية على شاشة التلفاز، حيث كنا نلعب مع أطفال العائلة سوبر ماريو وننتظر أدوارنا بشوق. كنت أراقب بانبهار أخوالي وهم يدرسون الحاسوب على نظام التشغيل ذي الشاشة السوداء “دوس Dos”. كان الكمبيوتر حينها يبدو لي كائنا غامضا لا يستطيع فك رموزه سوى عبقري. ثم جاءت الويندوز مزهوة بالألوان لتمحو سواد الشاشة.

في مدرستي في مدينة الزرقاء الأردنية كان مختبر الحاسوب أشبه بعالم سحري، لا أزال أذكر شعوري حين دخلته لأول مرة! أجهزة جديدة كأنها خرجت للتو من قالبها، وأوامر بسيطة تنفذها الأجهزة كأنها معجزة. عندما دخل الكمبيوتر بيتنا أصبح عالمنا الخاص، كنت أتحلق أنا وإخوتي وأخواتي حوله نشاهد أفلاما مثل “حياة حشرة” و”الأسد الملك”، وسط ضحكاتهم ومشاركتهم اللحظات بحفاوة.

مع دخول الإنترنت لبلادنا جاءت اللحظة الفارقة، دخلت الإنترنت بيتنا في وقت مبكر بعد منتصف التسعينيات، لتفتح لنا نافذة على العالم الافتراضي. انضممت إلى مجموعات ياهو بأسماء مستعارة، ثم صرت أراسل شقيقتي المغتربة عبر الإيميل، كانت رسائلها طويلة مكتوبة بلغة شعرية جميلة تنبعث منها رائحة الرسائل الورقية. في تلك الفترة كان الموبايل جهازا ثوريا يمكننا من إجراء المكالمات وإرسال الرسائل النصية، لكنه لم يكن متصلا بالإنترنت. ثم جاء الهاتف الذكي الذي غير كل شيء دون أن ندرك إلى أين سيأخذنا.

في عام 2009 انضممت إلى فيسبوك، الذي فتح لي أبوابا للتعرف إلى أشخاص جدد، بعضهم أصبحوا لاحقا أصدقاء أو زملاء عمل. وفي عام 2010 بدأت إنتاج فيديوهات نصية على يوتيوب عن بعد.

كان العام 2011 أو ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي لحظة تحول، كان الفضاء الافتراضي حينها يافعا جدا وواعدا جدا، وكنت أتساءل هل هناك سقف لهذا الفضاء؟ كنت أشعر بأن أعمارنا وخبراتنا تتضاعف، وأفقنا ممتد لا ينحسر عنه البصر. كانت تلك اللحظة تتويجا لانبهاري بالعالم الرقمي، حيث بدا وكأنه أداة للتحرر والتغيير، لكن تلك اللحظة كانت أيضا بداية طرحي للتساؤلات العميقة حول تأثير هذا العالم على حياتنا.

بدأ انبهاري بالعالم الرقمي يتلاشى تدريجيا! فكم شخصا صادفته بعد أن عرفته افتراضيا ورأيت فيه شخصا آخر؟ وكم من نقاشات حادة اشتعلت على منصات التواصل بسبب سوء تفسير لكلمات مكتوبة صامتة اختلف تأويلها؟ كم من صداقة انتهت فجأة برسالة نصية؟ كم مرة رأيت كيف تُقتَطع الكلمات من سياقها لإثارة الجدل؟ شهدنا حملات التشهير ورأينا أشخاصا يختبئون خلف الشاشات ينخرطون في حملات تنمر جماعي، بل دون معرفة الشخص المستهدف أحيانا!؟ صارت الإنترنت ساحة مقارنات تستنزفنا نفسيا بين حيوات افتراضية مثالية وواقع أكثر تعقيدا. وفي خضم كل هذا تتغذى شركات التكنولوجيا على نقاط ضعفنا، تقدم تحديثات مستمرة لإبقائنا على المنصات لأطول فترة ممكنة، بينما تجني هذه الشركات مزيدا من الأرباح من وقتنا واهتمامنا. فقدت الإنترنت براءتها أو ربما صورتها المثالية في مخيلتي.

لطالما شعرت بالنفور من المحادثات المكتوبة، حيث لا أرى ولا أسمع ولا أتكلم. ومع ذلك وجدت نفسي مضطرة لاستخدامها. أضفى ظهور الإيموجي بعض الانفعالات على الكلمات الجافة، لم أرها يوما أكثر من وسيلة لتلطيف النصوص، لا تعبيرا حقيقيا عن المشاعر، ومع ذلك أصبحت وسيلة جيل كامل للتعبير عن مشاعره.

مشكلتي مع المحادثات المكتوبة فضلا عن جفافها، أنها تفتح بابا عريضا للتأويلات وسوء الفهم. في قصة عبر المرآة يقول لويس كارول على لسان أليس التي ارتحلنا معها في بلد العجائب: “السؤال هو هل تستطيع أن تُلبِس الكلمات الكثير من المعاني المختلفة؟” فيرد همبتي دامبتي: “السؤال هو: لأي المعاني ستكون الغلبة؟ تلك هي العبرة”. وهذا ما يحصل مع الرسائل النصية، فأنت لا تعرف حال من يكتبها ولا ظرفه ومدى حضوره وهو كذلك، ولا تعرف كيف ستتلقاه أو يتلقاك. كلاكما غائبان في اللحظة نفسها لتوضيح أي لبس، ولفهم أي انفعال أو ظرف أخرج الآخر عن طبيعته.

وكثيرا ما تساءلت: لماذا يزداد سوء التأويل وافتراض الأسوأ في الرسائل المكتوبة؟ أظن السبب ببساطة هو الغياب، فنحن في هذه المحادثات نتواصل غائبين لا حاضرين، وهذا يخلق فجوة يصعب سدها بين النص والمقصود.

تضاءلت المكالمات بوجود تطبيقات الدردشة وأصبح الاتصال الصوتي نفسه يحتاج إلى إذن مسبق برسالة. باتت المهاتفة دون إخطار تعتبر قلة ذوق في نظر البعض، مما جعلني ألاحظ أن العتب على قلة الاتصال يأتي في الغالب من جيل والديّ، الذين يرون في المكالمات الهاتفية أداة لا غنى عنها للتواصل الإنساني الحقيقي. غزت الرسائل الصوتية ومقاطع الفيديو تطبيقات الدردشة، لكنها ظلت تفتقر إلى التواجد الآني.

بقدر ما كانت التكنولوجيا تسهل على جيلي والأجيال اللاحقة تواصلنا الافتراضي كان هذا التغيير يقلب حياتنا رأسا على عقب، وأثناء بحثي في موضوعات تتعلق بأثر هذه العوالم الجديدة على حياتنا، عثرت على أعمال شيري تيركل أستاذة الدراسات الاجتماعية للعلوم والتكنولوجيا بمعهد ماستشوستس للتكنولوجيا، إذ تقدم تيركل رؤيتها لتلك المفارقة التي أوجدتها التكنولوجيا، وهي التي صممت لتقرب البعيد ووعدت بتحويل العالم إلى قرية صغيرة، لكنها بدلا من ذلك عززت شعورنا بالوحدة.

ففي كتابها الصادر عام 2011 “وحدنا معا: لماذا نتوقع الكثير من التكنولوجيا والقليل من بعضنا البعض؟” تقف تيركل على الأثر النفسي والاجتماعي للتكنولوجيا الرقمية، إذ تغري التكنولوجيا الناس بالاعتقاد بأنهم قادرون على الاتصال بحرية وسلاسة من خلال رسائل نصية يمكن إرسالها في أي وقت ومن أي مكان، مع ميزة تحريرها قبل الإرسال. هذه الرسائل تسمح لنا بتقديم أنفسنا بالصورة التي نرغب أن يراها الآخرون، متجنبين المواجهة وتعقيداتها وما قد تثيره من مشاعر غير مرغوب فيها. لكن هذا النوع من التواصل، رغم أنه يمنح شعورا بالسيطرة، فإنه يفتقر إلى العمق والمضمون.

هذا التحكم الظاهري يضعف جودة التواصل بحسب تيركل، لأنه يقتل العفوية التي تعد جوهر التفاعل الإنساني الحقيقي. كما أنه يفقدنا القدرة على التعامل مع اللحظات غير المتوقعة، مما يعزز الشعور بالعزلة النفسية ويضعف العلاقات الإنسانية، لنصبح “أفرادا وحيدين معا”.

نحن نستخدم التكنولوجيا بدلا من تقديم الدعم العاطفي الحقيقي، أو لحل خلاف مع صديق، أو لتجنب اللحظات الصعبة. هذا الهروب من التعقيد يخلق فجوة بين البشر فيصبحون غير قادرين على بناء علاقات متينة، أو مواجهة تحديات حقيقية في تواصلهم.

استوقفني حديثها وأعدت التفكير في ممارساتي الشخصية. أنا التي أنفر من التواصل المكتوب، كم مرة لجأت إلى رسالة نصية بدلا من اتصال هاتفي أو لقاء كان يمكن أن يكون أكثر تعبيرا ووضوحا؟ وذلك لاعتقادي بأن كثيرين أصبحوا يفضلون هذا النوع من التواصل.

رغم إحباطي مما وصلت إليه علاقاتنا في العالم الرقمي، لا يزال لدي أمل في مرونة الإنسان وقدرته على التكيف. أؤمن بأن الإنسان سيصل نهاية إلى لحظة حاسمة، يدرك فيها أن هذا النمط من التواصل قد استنفد قدرته على تغذية احتياجاته العاطفية والاجتماعية، وأن التغيير بات ضرورة لاستمرار الحركة والنمو.

يكفي أن تتأمل الأطفال وهم يبحثون عن أقرانهم للحديث معهم وجها لوجه ليقولوا لك إن الحوار المباشر مكون أصيل في الطبيعة الإنسانية. أما الوسائل الأخرى مثل الرسائل النصية والصوتية، فهي ليست أكثر من محاولات للتعويض ومجرد حلول مؤقتة، لا تشبع جوهر الإنسان في حاجته للتواصل الحقيقي.

قد يبدو العالم الرقمي باردا وموحشا في كثير من الأحيان، لكنه ربما يفتح نافذة على الحاجة الإنسانية الملحة للتواصل الحقيقي، تلك الحاجة التي ستدفعنا يوما لإعادة ترتيب علاقتنا مع التكنولوجيا وجعلها في خدمتنا لا على حسابنا.