الثقافة الغالبة: كيف تُشكّل منصات التواصل الاجتماعي السياسة العالمية

في خطوة لافتة، يعمل مارك زوكربيرج على إعادة صياغة سياسة النشر على منصتي فيسبوك وإنستغرام لتصبح أكثر توافقًا مع حرية التعبير. يأتي هذا التغيير في سياق ضغوط متزايدة على الديمقراطية، وانتقادات طالت سياسات التضييق التي مارستها المنصات ضد قضايا سياسية محددة، خاصة مع صعود تيارات شعبوية ومجيء دونالد ترامب إلى السلطة.

لكن التحول في سياسة النشر لا يعكس مجرد استجابة للضغوط السياسية، بل يبرز أيضًا الدور الهائل الذي تلعبه شركات التكنولوجيا الكبرى مثل ميتا وإكس (تويتر سابقًا) في تشكيل الرأي العام العالمي. فهاتان الشركتان تمثلان سلطتين عالميتين افتراضيتين، يتبادل عبرهما ملايين المستخدمين يوميًا مواضيع متنوعة، تُدار وفق قوانين وسياسات خاصة. في كثير من الأحيان، تنتج هذه التفاعلات رأيًا عامًا ضاغطًا يصل إلى حد التأثير على نتائج الانتخابات أو إسقاط أنظمة حكم في بعض الدول.

رغم أن الصين قدمت تجربة ناجحة وقوية مع تطبيق تيك توك، إلا أن روسيا، وأوروبا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية لم تتمكن من إنشاء سلطة افتراضية مماثلة تنافس الهيمنة الغربية على هذا المجال. الصين استطاعت عبر تيك توك بناء منصة عالمية ذات تأثير كبير، لكن الهيمنة الكبرى ما زالت في يد المنصات الأمريكية، التي رسخت نفوذها في جميع أنحاء العالم بفضل قوة البنية التحتية التكنولوجية والثقافة التي تدعم الابتكار والتوسع.

على الجانب الآخر، يبرز غياب منصات عربية قادرة على دعم القضايا الإقليمية والدفاع عنها بفعالية. رغم الثروات الهائلة والموارد البشرية والفكرية التي تمتلكها المنطقة العربية، لم يتمكن العرب من إنتاج منصة تواصل اجتماعي عالمية تعبر عن قضاياهم. مثال ذلك القضية الفلسطينية، التي بقيت حبيسة المنصات العالمية مثل فيسبوك وإنستغرام، والتي غالبًا ما مارست سياسات تضييق على المحتوى الداعم للفلسطينيين. هذا الفشل يعكس أزمة أعمق في امتلاك الأدوات الثقافية والفكرية القادرة على التأثير عالميًا.

في النهاية، تبقى الثقافة الأمريكية-الغربية هي الثقافة الغالبة في العالم الرقمي، وذلك لسبب جوهري يتمثل في امتلاكها أقوى الأسلحة الفكرية المعاصرة: منصات التواصل الاجتماعي. هذه المنصات ليست مجرد أدوات تقنية، بل هي وسائل للسيطرة على السرديات السياسية والثقافية في السياسة الدولية. من خلالها، تتحكم الدول والشركات الكبرى في تدفق المعلومات، وتوجيه النقاشات العامة، وصناعة الواقع كما يراه مليارات المستخدمين.

في عصر تُشكل فيه التكنولوجيا ملامح المستقبل، تبقى سيادة الثقافة الغربية مرهونة بقدرتها على امتلاك هذه المنصات وتطويرها. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل ستتمكن الثقافات الأخرى من بناء منصاتها الخاصة واستعادة سردياتها المفقودة؟ أم أن العالم سيظل تحت هيمنة الثقافة الغالبة؟