العدالة الانتقالية في سوريا

العدالة الانتقالية هي تدابيرٌ قضائيةٌ وغير قضائية تُنفّذ في فترةٍ انتقاليةٍ بعد نزاعات مُسلحة أو حكم استبدادي بهدف تحقيق العدالة والمُصالحة الوطنية من خلال مُعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب وانتهاكات القانون الدولي الإنساني، وتوفير بيئة مُناسبة لمساءلة الأفراد المتورّطين في مثل هذه الجرائم وتقديم التعويضات المادية والمعنوية للمتضررين أو لذوييهم.

في سوريا بعد النزاع الذي دامَ من سنة 2012 وحتى سنة 2024 المئات بل الآلاف من الجرائم التي طالت أبناء الشعب السوري من قتلٍ وتعذيبٍ وإخفاءٍقسري وسلب حقوق ونهب مُمتلكات ومجازر جماعية وضرب بالكيماوي وقتل جماعي بالبراميل وغيرها من جرائم كُلها تمّت تحت ذريعة أيادي النظام السابق بحق الشعب السوري.

ففي سنة 2013 تمّ استخدام غاز السارين من قوات النظام في منطقة الغوطة الشرقية في دمشق وأسفر ذلك عن مقتل مئات الأشخاص، وفي 2017 في خان شيخون في ادلب تمّ استخدام هذا الغاز مُجدداً بحق المدنيين وحمّلت الولايات المتحدة الامريكية الحكومة السورية المسؤولية عن مقتل المئات من أبناء المنطقة، وفي دوما الشام سنة 2018 تمّ استخدام الكلور ضد أبناء المنطقة الأمر الذي يجعل آلام الشعب السوري تفوق الوصف من جرائم النظام في استخدامه الكيماوي ضد شعبه .

الأمر الذي يدفع قيادة سوريا الجديدة إلى تفعيل حقيقي للعدالة الانتقالية وهي أكثر ما يحتاج اليه البلاد في الوقت الحالي .

آليات العدالة الانتقالية :

أولاً: لجان الحقيقة: الأمر الهام في هذا الصعيد هو تشكيل “لجان الحقيقة” الذي يكون دورها الأساسي تجميع وتوثيق الشهادات ضد اللذين قاموا بجرائم بحق الشعب السوري وخاصةً فيما يتعلق بالتعذيب في أقبية السجون و فروعة الأمن، ومن الّذي أصدر القرار بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين ومن اعتقل النساء ومن اغتصب النساء في الزنزانات ومن عذّب المعتقلين ومن كان يكتب التقارير الكاذبة بحق الشباب ومن كان يُغذي أفكار الطائفية ومن سرق المنازل ومن سلب المُمتلكات ومن نكّل بالشعب ومن استخدم المكابس ومن ومن ومن …..

والأمر هُنا جداً دقيق وحسّاس حتى لا يغلب على هذه اللجان طابع الانتقام أو الافتراء، الامر الذي يستوجب أن يكون أعضاء هذه اللجان من أهل الصلح والحق في كل ما يقولونه أو يجمعونه بحق أحد الأفراد المتورطين بمثل هذه الجرائم. 

ثانياً: المحاكم الوطنية الخاصة : لا شك بأنّ عمل لجان التحقيق لا يكون لها أن تدخل بالمساءلة أو المحاسبة وإنما تجميع الأدلة الصادقة بحق المجرمين بحق الشعب السوري والأمر يُحال إلى محاكم خاصة بموجب الحق العام أو الخاص وجهاز قضائي مستقل يستندُ بشكل أساسي في أحكامه على الجرم المنسوب للشخص بشكل قانوني، ويكون للمدّعى عليه حق الوجاهية والدفاع بموجب توكيل قانوني . كل ذلك سعياً في اصدار حكمٍ والحاق الجزاءبالفاعل بشكل يتناسب مع الفعل المُقترف وألّا يكون حكماً انتقامياً سافراً وألّا يكون هنالك حكم جماعي على الجميع، فمن أصدر القرار ليس كمن نفّذ القرار ومن حرس زنزانة النساء ليس كمن اغتصب النساء .

ومن جانب آخر العديد من الضباط السوريين غادروا سوريا فهنا مهمّة أساسية أمام المحاميين الدوليين والمراكز الحقوقية والمحاكم الدولية وتحديداً المحاكم الاوربية ومحكمة الجنايات الدولية التي يكون لها الحق بالتحرّك بموجب المدعي العام أصلاً سعياً في ملاحقة هؤلاء ومحاسبتهم عن جرائمهم بما يساعد بشكل أساسي في تحقيق العدالة التي تندرج في العدالة الانتقالية في سوريا فلا صدور السوريين ستهدأ ولا أرض سوريا ستطمأن دون محاسبة هؤلاء.

ثالثاً: التعويضات : من المسلّم به أنّ دفع التعويضات لأهالي المفقودين والغائبين ومن هم بحكم الغائبين يُعتبر أمراً هاماً في العدالة الانتقالية ويحتاج هذا الملف إلى اهتمام خاص سعياً في تحقيقه ودعمه من الحكومة ويكون ذلك بمُبادرة جدّية في تشكيل صناديق لتعويض كل من لحقه الضرر من النظام السابق أو تعويض أسرته، ويمكن أن يتم دعم هذه الصناديق من دول أو منظمات تؤمن بأهمية العدالة الانتقالية ويكون الدعم أيضاً من ممتلكات المسؤولين الفارين وما أكثرها، وأيضاً التعويضات قد تكون عينية فكم سيارة سُرقت من أفراد النظام السابق وكم من منزل تم سلبه بذات الطريقة وأيضاً التعويض يكون في الجانب النفسي والمعنوي فكم أم حتى تاريخه لم تلتقي بابنها أو لم تسمع خبره فهي ليست بحاجة لمال وليست بحاجة لأي شيء سوى خبر عن ابنها وهنا يندرج أهمية الدعم المعنوي لأهالي المفقودين .

رابعاً : إحياء الذاكرة أو التاريخ: فسوريا خلال الأربع عشر عاماً شهدت الكثير من الجرائم كما أشرنا فنحن أمام مئات المجازر وأمام آلاف المفقودين وهذا الأمر يتطلب وضع نصب تذكارية في منطقة شهدت آلاماً حقيقةً من النظام المخلوع، فمجزرة الحولة محفورة في أذهاننا فلا بد أن يكون هُنالك شعار أو تمثال في مكان ارتكاب مثل هذه المجزرة وفي كل مكان تمّ ارتكاب مجازر مماثلة في الأراضي السورية. والمفقودين لابد أن يكون هُنالك تمثال يعبّر عنهم مثلاً يحمل اسم ” تمثال شهيد الثورة” وأن يكون مركزه في ساحات المُحافظات بديلاً عن تماثيل الأب المجرم حافظ الأسد لكي يبقى أثرهم في نفوسنا ونفوس أبنائنا بعد عقود من الزمن .

خامساً: المُصالحة الوطنية : أهم شيء ننظر له في سوريا الحديثة هو المصالحة الوطنية فسوريا تشهد أهل السنة والعلوية والمسيحيين والشيعة والدروز واليزيدين والأكراد والآشوريين والشركس ونسبةً قليلةً من اليهود، فانتصار الثورة السورية يجب أن يشهده مرحلة عدالة انتقالية في صلبها المُصالحة الوطنية فلا عداء بين العلويين والسنة ولا عداء بين السنة والشيعة ولا مع المسيحيين ولا الأكراد فنحن أمام محاكم لمُحاسبة من تورّط بجرائم الحرب وبعدها صفحةً جديدةً لجميع فئات الشعب للتعايش ولإدارة البلاد وتنميتها وكم نحن بحاجةٍ إلى العمل بجدّ في سبيل إعادة سوريا إلى قبل الحرب وأفضل مما كانت عليه، ولا يكون ذلك إلا بالّلحمة الوطنية والمصالحة السريعة بين جميع طوائف وأعراق الشعب السوري .

ختاماً : العدالة الانتقالية مفهوم واسع جداً ومعقد جداً ولا يُمكن تقييدها بفترة زمنية محددة ولكن هي تعتمدُ بشكل أساسي على الجديّة في تنفيذها من خلال عمل مؤسساتي قانوني يمتلك القدرة والوعي الفكري والسياسي لأهمية تطبيق العدالة، والأهم من ذلك هو الوعي الاجتماعي ورفع مستوى الحسّ الوطني لجميع أبناء الشعب السوري، الأمر الذي يُحقق أهداف العدالة الانتقالية ويطوي صفحة الدم والمعاناة عن الشعب بأسره ويفتح صفحةً جديدة ملؤها الأمل والعمل والتقدّم لسوريا الجديدة التي تُعيد للشعب السوري عزّته وكرامته.