مع استمرار الفصائل المسلحة المعارضة في السيطرة المتتالية على المدن الرئيسية في سوريا، تخلى بشار الأسد عن منصب الرئاسة في 8 ديسمبر وهرب إلى روسيا، مما شكل سقوطا رسميا انهيار لنظام أسرة الأسد الذي حكم سوريا لمدة أكثر من خمسين عامًا. بشأن هذا التحول التاريخي، طرح الباحثون تحليلات متعددة. يرى البعض أن الجيش الحكومي السوري عانى من تشتت في الولاء وضعف في الكفاءة القتالية، إضافة إلى تآكل أسس النظام وانهيار الثقة الشعبية بشكل كامل. بينما يشير آخرون إلى أن روسيا وإيران انشغلتا بالحرب الأوكرانية والصراع الإيراني-الإسرائيلي، مما حال دون تقديم الدعم اللازم لسوريا في الوقت المناسب. ومع ذلك، فإن هذه العوامل لا تُغني عن الإشارة إلى التأثير العميق للعقوبات الغربية على معيشة الشعب السوري واستقرار النظام.
في السياسة الدولية، تُعتبر العقوبات أداة دبلوماسية تهدف من خلال إجراءات تقييدية في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية إلى ممارسة الضغط على دولة أو كيان معين، وذلك من أجلاستجابة لتهديدات الإرهاب أو النزاعات الإقليمية وغيرها من التحديات الجيوسياسية. وتجسد تجربة سوريا الأثر العميق لهذه الأداة بشكل واضح.
أولاً: تاريخ العقوبات الغربية على سوريا
اتبعت العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على سوريا إلى الثمانينات من القرن العشرين. في عام 1979، تصنف الولايات المتحدة سوريا كدولة “راعيةللإرهاب”، ومن ثم فقدت سوريا المساعدات الأمريكية وحق تصدير الأسلحة.بعد حرب العراق في عام 2003، اتهمت الولايات المتحدة سوريا بتسهيل مرور المسلحين عبر حدودها إلى العراق، مما أدى إلى تدهور العلاقات بين البلدين بشكل حاد. في هذا السياق، أصدرت الولايات المتحدة “قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية”، الذي تطق لأول مرة في عام 2004، وهذا القانون قيد التجارة الثنائية للسلع وفرض عقوبات على الشخصيات الرئيسية في النظام السوري والبنوك التجارية.
في عام 2011، أدت الحرب الأهلية السورية التي اندلعت نتيجة للربيع العربي إلى تصعيد العقوبات. أعلن الرئيس الأمريكي أوباما عن تنفيذ سلسلة من الإجراءات القاسية، وحظر تقديم المساعدات لسوريا وحظر استيراد النفط السوري، بهدف قطع شريان الحياة الاقتصادي لحكومة الأسد. تتابع الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة في فرض حظر على الأسلحة وفرض تدابير اقتصادية تقييدية. في عام 2019، أصدرت الولايات المتحدة “قانون قيصر”، الذي يحظر على الدول الثالثة التجارة مع سوريا في مجالات النفط والأسلحة وغيرها، مما زاد من تعقيد عملية إعادة إعمار سوريا بعد الحرب.
ثانيا: تأثير العقوبات الغربية على سوريا
تتميز العقوبات الغربية على سوريا بكونها شاملة ومستهدفة في الوقت ذاته، وهذه تركت تأثيرًا عميقًا على الحياة اليومية للشعب السوري. قبل الحرب الأهلية، كانت سوريا قادرة على تلبية احتياجاتها من السلع الأساسية. ومع تعمق العقوبات الاقتصادية، أصبحت سوريا أكثر عزلة على الصعيدين السياسي والاقتصادي؛ حيث قطعت علاقات التجارة مع أوروبا، وانخفضت إيرادات النفط بشكل كبير، وكان هناك نقص طويل الأمد في إمدادات الوقود. كما شهدت احتياطيات سوريا من العملات الأجنبية تراجعًا حادًا، واشتدت التضخمات وارتفعت الأسعار، مما أدى إلى تحويل هذه الضغوط الاقتصادية في النهاية إلى الشعب السوري العادي. وفقًا لتقارير البنك الدولي، حتى عام 2022، ارتفعت نسبة الفقر في سوريا إلى 69%، بينما ارتفعت تكاليف الحياة للأسر السورية بشكل كبير، مما أدى إلى تراجع مصداقية الحكومة ونسبة تأييدها.
الخاتمة
إن الاضطرابات في سوريا والتأثير العميق للعقوبات يضربان جرس الإنذار للمجتمع الدولي. فالعقوبات كأداة دبلوماسية، لا تعتمد فعاليتها فقط على رد فعل حكومة الدولة المستهدفة، بل أيضًا على الظروف المعيشية للشعب والتحديات التي يوجهها. في سوريا، لم تساهم العقوبات في تغيير النظام، لكنها أوقعت ملايين المدنيين في معاناة شديدة. ويجب على المجتمع الدولي عند فرض العقوبات أن يوازن بين الأهداف السياسية والاعتبارات الإنسانية، لتجنب إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالفئات المتأثرة. وفي الوقت ذاته، فإن الطريق إلى إعادة بناء سوريا في المستقبل لا يمكن أن يكون إلا من خلال الحوار الشامل والتعاون البناء من قبل المجتمع الدولي.
* باحثة وأكاديمية صينية