سقوط الأسد.. أو يوتوبيا البعث وأوهام الأصولية

سقطت اليوتوبيا البعثية بسقوط آخر نظام يمثل هذا الحزب الذى تأسس فى سوريا على يد ميشيل عفلق وزكى الأرسوزى وآخرين، فى إبريل سنة ١٩٤٧، وثبت فشلها فى تحقيق أى من وعودها فى الحرية والعدل للوطن أو التحرر والوحدة للأمة، بعد سقوطه سابقا فى العراق سنة ٢٠٠٣، ولكن لا نبالغ إذا قلنا، إنه أفول الشموليات والأيديولوجيات الكلية، ليس فقط فى صيغتها البعثية ولكن فى كل صيغة إقصائية غير تاريخية، قومية أو دينية أو علمانية، ومرحلة جديدة تؤكد على حقيقة الوطن.

فى الثامن من ديسمبر الجارى، وخلال عشرة أيام فقط بين سقوط حلب وسقوط دمشق، انتهت سريعا حقبة آل الأسد فى حكم سوريا مدة ثلاثة وخمسين عاما، لتولد حقبة وطنية سورية مختلفة، يرجو الجميع أن تتجنب مخاطرها وأن تتعلم من دروس تاريخها، كما تشكلت بها خارطة إقليمية ودولية جديدة انخلعت فيها سوريا من المحور الإيرانى وانتهى الهلال الشيعى، وتراجع دور الدب الروسى المتورط فى الحرب الأوكرانية منذ فبراير سنة ٢٠٢٢ كثيرا.

نرى أن التأثير الفكرى لهذا السقوط المدوى والأخير لأفكار البعث، لا يعلن فقط الوفاة الفعلية لأفكاره ومؤسسيه عفلق والأرسوزى، ولكن الأهم أنه يعيد الاعتبار للدولة الوطنية أو القطرية التى طالما شوهها البعثيون والمتطرفون الإسلاميون على السواء، كما يعيد الاعتبار لشرعية وأولوية الإنجازات قبل الشعارات العابرة للوطن والمغامرة به، ولحقوق المواطنة وإدارة تنوعها دون قهر أو قمع أو سجن للاختلاف، فالبعث العراقى قسم العراق واضطهد شيعته وأكراده، والبعث السورى قسمها واضطهد سنته وأكراده وكل معارضته.

لقد مثلت هذه شعارات (الوحدة والتحرر) مصدر شرعية أنظمة البعث فى البلدين، رغم اختلافهما، ولكن سقطت الفكرة والتجربة، لا حرية ولا تحرر بسياسة القمع والقهر، ولا وحدة دون معمار ودون قوة الدولة الوطن، وأخيرا لفظها المواطنون فى سوريا والعراق على السواء.

تاريخيا، لم يوحد حزبا البعث- فى البلدين- أمة كما لم يحفظا وحدة وطن!، ولكن رسخا الانقسام بكل تنوعاته، قهرا وكسرا، داخليا وخارجيا على السواء، فقد تحيز بعث سوريا لإيران فى حربها ضد البعث العراقى بين عامى ١٩٨٠ و١٩٨٨ ورسخا الانقسام العربى فى الغزو العراقى للكويت سنة ١٩٩٠، أو فى الانقسام الطائفى لدى كل منهما، سواء ضد الإخوة الشيعة فى العراق، أو الإخوة السنة فى سوريا، وضد الأكراد والأقليات الأخرى فى كليهما!.

إعادة الاعتبار للدولة الوطنية:

منذ خمسينيات القرن الماضى، نعيش خطابا أيديولوجيا قوميا استعلائيا، لم ير فى الدولة الوطنية إلا صنيعة مشوهة للاستعمار ونتاجا لاتفاقاته فى سايكس بيكو سنة ١٩١٦، وفى هذا اتفق القوميون والإسلاميون، لكن عاد الاعتبار لحقيقة وشرعية الوطن والدولة الوطنية وتعرية وإزاحة شعارية الأمة المتخيلة أو الوحدات المأمولة على حساب الشعب.

جاء الهروب المخزى لبشار الأسد وسقوط نظام البعث السورى الممثل الأخير للحزب، سقوطا لليوتوبيا البعثية والدينية وكل يوتوبيا لا تاريخية على السواء، لكنها لا تعنى نهاية العروبة والعربية ولكن تكشف حقيقة وشرعية الدولة الوطنية كأساس لأى شرعية أو تعاون عربى فى إطار نظام عربى متعدد ومتكامل، يؤمن بالسياسة كإدارة للتنوع وليست أداة للقهر، ويرى التاريخ مسارا واقعيا لا يدعى الاقتدار عليه كما كان يقول صدام حسين، أو الانقلاب والقلب له كما كان يصرخ عفلق والأرسوزى.

بعد السقوط كان طبيعيا أن تثور المخاوف من احتمالات الانقسام وصراع الفصائل المسلحة، كما حدث فى العديد من الثورات، ولكن لم يحدث دائما، ولكن حتى حينه يبدو الخطاب المحرر وطنيا واعيا أن سوريا أولا، وأنها تتسع لكل السوريين، يرسل بتطميناته للداخل والخارج، والسعى لتمكين دولة القانون وتجريم أى ممارسة خارجه، فى توجه عقلانى ومرن حتى الآن، وهو ما أرسله أحمد الشرع فى رسالة واضحة للعراق بالخصوص، وهو ما تفهمه العراقيون حين لم يتجاوزوا حدودهم السيادية ويتدخلوا كما كان فى السابق.

انتهت وأفلت شمس اليوتوبيا البعثية وغيرها، عاد الوطن- قبل الطائفة- فى الداخل وقبل محاور وشهوة الصراع فى الخارج، حضرت الذات قبل الآخر، كل آخر، طائفة داخله أو خارجه، أيا كانت المخاوف فالحل والاعتبار عاد ويجب أن يعود بقوة للدولة الوطنية، البداية والنهاية فى الوطن، فى الذات وليس فى الآخر والأوهام.