ما وراء القياس الكمي

ما وراء القياس الكمي

لنتفق أولا على ان أحدا لا يستطيع الزعم بأن هناك منهجا علميا في الدراسات الاجتماعية والانسانية لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،لكن المشكلة في المنهج الكمي تقتضي التمييز بين الإشكال البنيوي في المنهج (مدى التسلسل المنطقي في تركيبه ومؤشراته وأوزانه وفترات قياسه وطرقها …الخ) وبين تغييب بعض ابعاده لاستثمار الأبعاد الحاضرة ” لغرض في نفس يعقوب”، ويكفي أن نتوقف عند بعض النماذج السياسية من ناحية والاقتصادية من ناحية اخرى :

أولا: ظاهرة الديمقراطية:
هناك ثلاثة مؤشرات مركزية في قياس نتائج الانتخابات (كأحد آليات الديمقراطية) وهي نسبة المشاركة الشعبية في الانتخاب، ونسبة ما حصل عليه الفائز، ونسبة ما حصل عليه المهزوم.
والملاحظ أن التركيز كله ينصب على الفوز بحد ذاته(وهو امر لا ننكر اهميته)، ولكن لماذا يجري تغييب نسبة ودلالة ما حصل عليه المهزوم، وتغييب نسبة المشاركة او التلاعب بها .
وقبل ان اقدم نماذج من واقعنا العربي اشير الى النتائج الاخيرة في الرئاسة الامريكية، فقد حصل ترامب على حوالي 77,3 مليون صوت، بينما حصلت هاريس على حوالي 75 مليون صوت، فقد فاز ترامب بنسبة 49.9% بينما فازت منافسته على 48.4%.أي ان الفارق بينهما هو حوالي 1.5%…(قمنا بتقريب النسب الى اقرب خانة عشرية)..ذلك يعني:

أ‌- ان هناك حوالي 75 مليون امريكي لا يريدون ترامب
ب‌- ان ال 75 مليون يرون خطته غير صالحه
ت‌- قبل المهزومون بالنتيجة ،ولكن لماذا؟ لأن الامر لا يتجاوز 4 سنوات لاعادة الامتحان ، والتاريخ الامريكي يشير الى ان التناوب على السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين هو20 رئيسا جمهوريا و 17 رئيسا ديمقراطيا( مع استبعاد الفترة التي فاز فيها عشرة رؤساء قبل تبلور البنية الحزبية القائمة )، وهو ما يعني أن الامل بالعودة للسلطة أو البقاء فيها أمل يقوم على احتمال لا يقل عن 54% للجمهوريين و 46% للديمقراطيين، وهي نسبة كافية للانتظار لفترة قصيرة جدا في حياة الشعوب وهي أربع سنوات فقط.
لنعد الآن للعالم العربي، وساشير الى 3 انتخابات رئاسية أو تشريعية توفر لها فرصة النزاهة بقدر كبير(بشهادة المراقبين من مؤسسات دولية مختلفة) ، ومناقشة الالتزام فيها بالمؤشرات الثلاثة التي اشرت اليها سابقا:

أ‌- الانتخابات التشريعية الجزائرية عام 1991، فقد فازت الجبهة الاسلامية للانقاذ بنسبة 47.27%، وهو ما يعني ان حوالي 53% من الناخبين لا يريدونها، اي اكثر من نصف الشعب الجزائري، لكن الابتهاج بالنصر غيب هذه الحقيقة رغم انه ابتهاج شرعي وطبيعي ، لكن دلالاته في غاية الخطورة بخاصة في مجتمع تربى على التقاليد الثورية والتمرد ، لذلك تمرد المهزوم على النتيجة وخاف ان تستقر الجبهة على كرسي السلطة كما استقر عليها حزب جبهة التحرير خلال حوالي 30 سنة مضت منذ الاستقلال الى حين اجراء تلك الانتخابات ، وهكذا غيب المنتصر ثقل الرافضين له، وأحضر المهزوم أتباعه وقلبوا النتيجة..لان المهزوم متخوف من ان المنتصر سيجلس بمقدار ما جلس.
ب‌- الانتخابات الرئاسية المصرية: عام 2012، لقد فاز الرئيس المرحوم محمد مرسي بنسبة 51.73%، بينما فاز خصمه( محمد شفيق) بنسبة 48.27%، اي ان مرسي حصل على 13.2 مليون صوت مقابل 12.3 مليون صوت ضده، ولكن التجربة لم تدم أكثر من عام واحد، لان مرسي غيب ثقل من لا يريده وتصرف كما لو ان مصر كلها معه، وشعر المهزومون ان وراءهم وزن شعبي لا يستهان به، فاغواهم هذا الثقل للعودة ثانية ، وبدأ التلاعب بالنصوص والقوانين .
ت‌- الانتخابات التشريعية الفلسطينية : فازت حركة حماس بحوالي 57.6% من المقاعد وعارضها 43.1%، (منها 32.6% لفتح) ،وبمشاركة من الناخبين قاربت 77%، وشعرت حماس بزهو النصر ذاته ، وهو زهو مشروع، لكنها غيبت من حسابها أن أكثر من 43% من الشعب الفلسطيني لا يريدها،فكان أن تكرر ما جرى في مصر والجزائر..

وهنا نتساءل لماذا لا نقبل بالنتائج رغم انها نزيهة(في الحالات التي اشرت لها)..لان من يصل الى السلطة يريد البقاء كما بقي اسلافه من الخلافة الراشدة مرورا بالنظم المعاصرة عندما نضح علينا النظام الناصري بنسبة 99.99% من التأييد الشعبي ، فالذي يصل الى السلطة يتعامل معها وكأنها ” من أملاكه”، أما الانظمة التي لا انتخاب فيها للحاكم فحدث ولا حرج.
لذلك لا يجوز ان نقع تحت وقع المظاهرات التي تنقلها الشاشات في ساحات سوريا حاليا ، لان الحجم هو ذاته الذي كان يعرضه تلفزيون الحاكم السوري السابق، ولو عاد للسلطة فانه قادر على جمع حشود بالمهابة ذاتها التي تحيط بقادة المعارضة الحالية ، ولكم في القذافي وصدام وعلي عبدالله صالح امثلة على كمية الحشد والتصوير..حشود ترقص لهم وحشود ترقص على اطلالهم ، وقد تكون بعض الحشود متداخلة ، انه التلاعب بالكم ..والوقوع في وَهْم ان الكل من انصاري ومعي ، مع ان الله يُلحد به 17% من سكان العالم طبقا لعدد من الاستطلاعات المعروفة، راينا الحشود الضخمة مع مرسي ، ورأينا الحشود الضخمة مع السيسي..لكن كل منهما لم ينظر الا لحشوده وكأنه في “يوم حُنيْن”.

ثانيا: ظاهرة قياس الناتج الاقتصادي :
ثمة طريقتان لقياس اجمالي الناتج المحلي للدول، فهناك القياس الاسمي(Nominal) ،اي الاعتماد على القيمة المجردة لكمية الانتاج X سعر السوق المحلي، بينما الطريقة الثانية وهي المعادل الشرائي(Purchasing Power Parity) فيعتمد على المقارنة في حجم الانتاج على اساس الربط بينه وبين القدرة الشرائية للفرد.
ويكمن التلاعب في هذا الجانب في ان الدول المتقدمة على اساس القياس الاسمي(رغم انه اقل دلالة علمية) تعتمده لانها يمنحها مرتبة متقدمة بين دول العالم، وهنا يجري تغييب قيمة اجمالي الناتج المحلي على اساس المعادل الشرائي كما تفعل اغلب المقاييس الامريكية لتكريس فكرة التفوق الامريكي، ولكن التغييب الثاني بالمقابل يتم عند من يعتمدون على نشر ارقام معدل الدخل الفردي الذي يقوم على اساس تقسيم الناتج على عدد الافراد، ولكن اي ناتج الاسمي ام المعادل الشرائي ؟ ، ويكفي ان اعطي مثالا:
لو اخذنا اعلى خمس دول في العالم من حيث اجمالي الناتج المحلي على اساس المعادل الشرائي سنجد ما يلي:
الاول: الصين بقيمة 33.1 تريليون دولار
الثاني :الولايات المتحدة: 29.2 تريليون دولار
الثالث: الهند بقيمة 16 تريليون
الرابع :روسيا بقيمة 6.9 تريليون
الخامس :اليابان 6.6 تريليون
ولكن لو قارنا على اساس القياس الاسمي سنجد (ولاحظوا الفرق الكبير جدا):
الاول: الولايات المتحدة 25.43 تريليون
الثاني :الصين 14.72 تريليون
الثالث: اليابان 4.25 تريليون
الرابع : المانيا: 3.85 تريليون
الخامس: الهند 3.41 تريليون
وهنا نلاحظ ان روسيا غابت من القائمة الثانية وحضرت في الاولى، بينما المانيا غابت من الاولى وحضرت في الثانية، كذلك نلاحظ ان الصين في القائمة الاولى متفوقة على امريكيا بحوالي 4 تريليون بينما في الثانية تتفوق امريكا بحوالي 11 تريليون، كما ان الهند في القائمة الاسمية سجلت حوالي 20% من قيمة ناتجها في القيمة الاولى…وهكذا

الخلاصة:
دون تحيز للمنهج الكمي، فانه كغيره لا يخلو من ثغرات، لكن التعامل معه بحاجة لفهم تعقيداته الشديدة والمنهكة للباحث ، لكن الكثيرين كالشعراء “في كل واد يهيمون”…ولكم مني “ربما”.