كان يفترض بهذا المقال من سلسلة فلسفة الدولة أن يستكمل استعراض نظرية العقد الإجتماعي مع منظرها الثاني جون لوك، لكن تحت ضغط الحدث الكبير الذي حصل بداية هذا الأسبوع المتمثل في سقوط نظام الأسد، رأينا أن نبحث في هذه السطور الأصول الفلسفية لسقوط وانهيار الدول؟
وما دمنا نعاين حالة سقوط نظام دولة من الدول العربية التي لم تستكمل حتى الآن شكل الدولة الحديثة أو دولة العقد الإجتماعي. فكان لا بد من الإستعانة بابن خلدون للإجابة عن هذا السؤال.
فمؤسس علم الإجتماع، العالم العربي الكبير ابن خلدون (1332-1406) قد عرض في مقدمته الشهيرة، واحدة من أكثر النظريات شمولاً وعمقًا حول نشوء الدول وسقوطها. وقد لخص هذه النظرية كلها بعبارته الموجزة والشهيرة (الظُلمُ مؤذنٌ بخراب العمران) !
ففي نظريته لنشوء الدول يقسم ابن خلدون مراحل حياة الدولة، التي تبدأ بـالقيام وتنتهي بـالانهيار، وهي تتألف من ثلاث مراحل رئيسية:مرحلة النشأة (القوة) وفيها تقوم الدولة على أساس “العصبية”، التي تمثل وحدة قبيلة أو جماعة أو (حزب) في الحالة المعاصرة. ومن خلال العصبية تستمد الدولة قوتها وصلابتها. وفي مرحلة الازدهار تصبح الدولة مستقرة وتنتقل من حياة البداوة إلى حياة الترف. في هذه المرحلة، تزداد المركزية ويصبح الحاكم هو محور السلطة مع مجموعة صغيرة جدا من المتنفعين منه ومن حكمه، ويتضائل دور كل ما عداهم بما في ذلك عصبيته التي أوصلته أو حزبه بالتعبير المعاصر . لتصل الدولة أخيرا الى مرحلة الانحدارحيث يظهر الفساد والظلم، ويضعف ارتباط الحاكم بالشعب بل ينفصل تماماً.
إن السمة المميزة والأساسية لمرحلة الإنحدار التي وصفها ابن خلدون تتمثل بتركيز كل السلطة وكل الثروة بيد هذه الأقلية الفاسدة التي تمثل الحاكم المستبد وأعوانه، والتي تميل الى القمع والتعامل الأمني مع كل من يخالفها ويحتكرون السطلة الأمنية والجيش خدمة لمصالحهم وحماية لهم من ثورة الناس. وإذا لم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم في وجه الثائرين استعانوا بقوى مرتزقة خارجية لحمايتهم، وفي ذلك يقول ابن خلدون ((فإذا جاء المطالب لهم (أي إذا قامت الثورة عليهم)، لم يُقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر من الموالي (القوى الخارجية)، ويصطنع من يُغني عن أهل الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت)).
ومن يتمعن في كلمات أبن خلدون هذه لا يسعه إلا أن يقول لله درك أيها العالم العربي الكبير، فكأنما وأنت تكتب هذا السفر الخالد المسمى بالمقدمة، كنت تعاين المستقبل وتصف بالضبط مآلات الكثير من الدول التي تساقطت في هذا الشرق العربي المنكوب بالفساد والإستبداد، فاعتبروا يا أولي الألباب!