لماذا حب الوطن من الإيمان؟!

إن مفهوم الوطن المعاصر، وارتباطه، بالدولة الوطنية، حديث نسبيا، ودلالته الوطنية والدستورية الحداثية غير دلالته القديمة، التى وردت فى معاجم وقواميس العرب، حيث لم يكن بمعناه المعاصر. وقد احتفظت العاميات بمعناه القديم، فزادت تشويه تطوره الدلالى والمفهومى الحديث.. الذى يعنى أساسا وحدا لسيادة الدول، جوا وبرا وبحرا، وفضاء مفتوحا لمواطنيها، وهو مصدر لحقوق مواطنيه وساكنيه، وتعبر الجنسية وشروطها وحقوقها عن الانتماء إليه والتبعية له، مسؤولية تجاهه ومنه.

كما يمثل الدفاع عنه ورعاية مصالحه، واحترام حقوق مواطنيه أولى مهام الدول. ويأتى ذكره وفق هذا المفهوم فى الدساتير والقوانين واللوائح والقرارات، والقسم الذى يقسمه صاحب كل سلطة فى مجاله العام، وقد نشأ وتبلور بعد صلح وستفاليا سنة ١٦٤٨م، والتمكين لمفهوم الدولة الحديثة، التى تقوم على مبدأ الدولة- الأمة والمساواة دون تمييز بين مختلف المواطنين.

لكن المعضلة أن البعض قد يتشوه فهمه لكل ذلك، مرتبطا بمحدودية وسيولة معناه القديم الذى يبقى فى دائرة المكان والموطن فقط، فهو حسب ابن منظور صاحب لسان العرب، مجرد مكان، فهو موطن الإنسان ومحله، والموطن هو مكان الإقامة والتوطن أو السكن مؤقتا كان أو ثابتا، وقد جاء فى القرآن الكريم: «لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة» ( التوبة-٢٥)، وجاء فى صفة النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكن يتخذ موطنا!، أى مجلسا ثابتا يقيم فيه. والوطن وفق هذا المعنى اللغوى لا يتجاوز معنى المكان والإقامة الذى يرتبط به الشخص، وفى ذلك كتب الجاحظ رسالته الوحيدة فى هذا الباب «الحنين إلى الأوطان» ولم يتجاوز المعنى عنده هذا المعنى اللغوى المحدود المرتبط بالمكان والموطن للأهل وللأحبة والإقامة، فهو قابل للتغير من موطن لموطن، ومن بلد لبلد، كما قالت كتب التراجم والرجال القديمة.

كما تم تشويهه بسيطرة مفهوم الأمة، حسب عنصر الدين أو عنصر اللغة أو العرق، وأنها الرباط الوجدانى والمشترك مع أشباهه، وأنها مقدمة على سواها، خاصة أن كل خطابات تمجيد الماضى والذاكرة تتكلم عن الأمة والوحدة والقوة والصراع.. مع حداثة مفهوم الوطن نفسه الذى نراه حقيقة وضرورة وجودية، كما أنه فريضة دينية وثقافية.

يمثل مفهوم الوطن المرتبط بالدولة الحديثة، المعبر الأهم عن الهوية، فهو أول ما تُسأل عنه فى الوطن وخارجه، هو الذى يسألك العالم عنه، وتلتصق حياتك به، فهو انتماء وجدانى وإنسانى وقانونى وثقافى، تترتب عليه واقعة الانتماء إليه، وكذلك حقوق وواجبات، تجسدها كلمة المواطنة، التى تعنى المساواة بين كل المواطنين فيها وفيه.

كان رفاعة الطهطاوى أول من أكد على ضرورة التمكين لثقافة الوطن ومقولته، فكان يقول: حب الوطن من الإيمان. وفهم حقيقته المثقفون الشوام الذين عانوا من الأحكام الملية فى العصر العثمانى، فكان بطرس البستانى أول من كتب «الدين لله والوطن للجميع»، وهتف له أمثال أديب إسحاق، وبعده ثورة ١٩١٩ كان الهتاف بالتحرر من الاستعمار، واستقلال مصر، مصر للمصريين!!، نعم كان المحرك هو الوطن. هو الغاية وهو الوسيلة.

ولا يعارض الإيمان بالوطن الدين، بل يؤكده فى أكثر من موضع، لأنه المكان والموطن للإنسان وللأهل وللأحبة، هو الأرض التى يعد شهيدا من مات دفاعا عنها، فهى حقيقة أقرت بها الأديان، وقد وصف النبى مكة وهو مهاجر منها بأنها أحب البلاد إليه، وحين فتحها نزع الراية عمن أعلنها ملحمة (سعد بن عبادة) وأعطاها ابنه، وقال بل مرحمة، اليوم يوم المرحمة!!. هكذا كان رفقه بوطنه.. وليس استنزافه والسعى به نحو التوحش كما يريد بعض منظرى القاعدة وداعش!.

ويبدو الوطن هدية وعهد الله لإبراهيم ونسله، وليس لأبناء يهوذا فقط، وحين ذكر القرآن كلمة الأرض ٤٥٨ مرة، كانت تحمل فى معظمها معنى الوطن لأنها الأرض التى يعرفون، ومنها يرزقون وليس العالم!.

إن التربية الوطنية والمواطنية والتأكيد عليها ضرورة حتى لا يتشوه مفهوم الوطن، ويكون الانتماء إليه حقا وواجبا فى آن، دون متاجرة ودون مغامرة، فالبعض ممن رأينا استهانوا بفكرة الوطن وشوهوها، لصالح الروابط الأخرى، رغم أنها الحقيقة والواقع وربما التاريخ والمصير، ولهذا مقام آخر. والبعض للأسف قد يتاجرون بمعنى الوطنية، وهم ينفونها عن غيرهم من المواطنين، ويرفعونها شعارا فقط، وقد قال الشاعر العراقى الكبير معروف الرصافى (١٨٧٥-١٩٤٥) يوما:

«لا يخدعنك هتاف القوم بالوطن.. فالقوم فى السر غير القوم فى العلن

أحبولة الدين ركت من تقادمها.. فاعتاض عنها الورى أحبولة الوطن».

يا ترى ماذا لو رأى الرصافي العراق الآن، ويا ترى ماذا لو رأى غيرها؟!.