عندما شاهدت الفيلم التسجيلي “أحلام المنفى” للمخرجة الفلسطينية مي المصري لأول مرة قبل عشرين عاما، تملكني إحساس غامر. كانت عيون الأطفال تتألق سعادة تارة وحزنا تارة أخرى، في لحظات عفوية وحميمية استطاعت مي أن تلتقطها بحساسية عالية. كان وجودها خلف الكاميرا خفيفا وكأنها جزء من القصص التي تحكيها، مما جعل شخوص أفلامها يتصرفون على سجيتهم دون تكلف. دفعتني تلك التجربة للبحث عن أفلامها في مكتبات وسط البلد في العاصمة الأردنية عمّان، وشاهدتها مرارا. كنت ألاحظ ظهور مي الخاطف في بعض أفلامها، تحتضن طفلة تبكي أو تبتسم ابتسامة دافئة تحيي الكاميرا قبل أن تختفي، وكنت أشعر أنها تعيش تلك اللحظات بكل جوارحها وتنغمس فيها بكليتها، شعرت بأن أفلامها تريني ما أراه في الآخرين وتتصل بهم كما أتصل بهم كامرأة.
في مرحلة لاحقة اكتشفت أعمال مخرجات أخريات مثل اللبنانية نادين لبكي والسعودية هيفاء المنصور والفلسطينية آن ماري جاسر، وتأكدت لدي القناعة نفسها، هناك شيء خاص تستطيع أن تنقله المرأة المخرجة قد لا يتمكن الرجل من نقله بذات الحساسية والعمق، وهناك قصص وحكايا يمكن للمرأة أن تنقلها، وهي قصص تظل ناقصة غير مكتملة إن لم ترو من وجهة نظرها. فلكي تكتمل الصورة فهي تحتاج إلى رؤية المرأة ومنظورها الخاص للعلاقات والتشابكات حولها. فلماذا يعد حضور المخرجات السينمائيات ضرورة لإثراء للمشهد السينمائي؟ وكيف يساهمن في تطوير السرد السينمائي؟
عادة ما تضيف النساء إلى السينما تجارب حياتية ووجهات نظر مختلفة تسهم في تصوير أكثر تنوعا ودقة للشخصيات والعلاقات والقضايا الاجتماعية، سواء كان ذلك يتعلق بحكايا المرأة والطفل أم في رؤيتها للرجل وعلاقاته بمحيطه. ففي فيلم واجب لا تكتفي آن ماري جاسر بنقل تعقيد العلاقة بين الأب وابنه أثناء توزيعهما لدعوات زفاف في مدينة الناصرة، ولكن تبرز حساسيتها كامرأة في رصد المشاعر والتوترات الخفية بين الرجلين، من خلال لغة الجسد والحوارات المحملة بالمشاعر التي لا تقال صراحة عادة، لتكشف للمشاهد طبقات أخرى من هذه العلاقة الإنسانية. وفي فيلم “كفرناحوم” استطاعت نادين لبكي أن تصور الألم من منظور الطفل زين الذي يعيش ظروفا قاسية في بيئة تعاني من التهميش، تلتقط لحظات الصمت والانكسار ببراعة تمنح الفيلم بعدا عاطفيا قويا. وفي فيلم أطفال شاتيلا استطاعت مي المصري أن تلتقط مشاعر الأطفال الذين يعيشون في مخيم شاتيلا بعد سنوات من المجزرة، مستعرضة كيف يؤثر الألم الجماعي على جيل بأكمله.
تركز المخرجات على الشخصيات النسائية في الأدوار الرئيسية، ويتناولن موضوعات ذات صلة بحياة النساء، وهو ما يؤدي إلى تصوير أكثر توازنا وتمثيلا للنساء على الشاشة، ويعد أمرا هاما في تشكيل التصورات الثقافية. ففي فيلم وجدة لهيفاء المنصور تظهر المنصور القيمة لأمر قد يبدو بسيطا وغير مرئي في حياة الفتيات، مثل رغبة وجدة في امتلاك دراجة في مجتمع محافظ. استطاعت المنصور تحويل هذه الرغبة، التي قد لا يلقي لها أحد بالا، إلى قصة تعكس صراعا داخليا واجتماعيا. وتمكنت أن تبرز كيف يمكن أن تتحول مثل هذه القضية الصغيرة في ظاهرها، إلى هاجس كبير في عقل صاحبتها، وهو منظور تستطيع أن تستشفه بحساسيتها كامرأة.
تقدم المخرجات نهجا مميزا يعزز من الابتكار في كيفية سرد وتقديم القصص يتجلى ذلك في الحساسية العاطفية والنظرة الاجتماعية الفريدة في تناول القصص والقضايا، مما يجعل السينما أكثر حيوية وديناميكية. ففي فيلم “وهلا لوين” تقدم نادين لبكي منظور النساء للحرب بطريقة غير مألوفة. تركز لبكي على دور النساء كعامل تهدئة ورسول للتعايش وسط صراع طائفي يمزق القرية، بدلا من التركيز على العنف والصراع كما يحدث عادة في الأفلام التي تتناول الحروب. كما تطرح آن ماري جاسر في فيلم “ملح هذا البحر” رؤية تستلهم بشكل غير مباشر من رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” من منظور ثريا الأمريكية الفلسطينية التي تزور فلسطين لأول مرة، فلسطين التي تعرفها جيدا عن بعد ولا تعرفها عند الاقتراب منها، والتي تتصل بها عاطفيا دون أن تراها، والتي تشكل جزءا من هويتها رغم غربتها عنها، فتأتي تلك الرحلة وهذا اللقاء محملا بالأحاسيس المفعمة والمتضاربة، في تجربة إنسانية عميقة تمزج بين استكشاف الذات والوطن. هذه الفرادة في السرد تعكس قدرة المخرجات على نقل القضايا الكبرى من خلال قصص إنسانية عميقة تستكشف جوانب غير مطروقة عادة.
إن زيادة عدد المخرجات يؤدي إلى تمثيل أفضل وأشمل على الشاشة وخلف الكواليس مما يؤدي إلى تغييرات إيجابية في الصناعة. كما تشكل المخرجات الناجحات نماذج قيادية يحتذى بها، مما يلهم الجيل القادم من صانعات الأفلام، إضافة إلى تولي المخرجات أدوار التوجيه والتدريب، مما يساعد في تثقيف وتوجيه الجيل القادم من صناع الأفلام.