ثنائيات مسدودة، تشبه الأبيض والأسود، الإيمان والكفر.. تُحرك وعى كثير من العرب. فى كثير من الأمور، إما دينًا وإما علمًا، إما نصرًا وإما مقاومة، إما حداثة وإما تراثًا، وعن الأخيرة مقالنا اليوم!!.
فحول ثنائية الحداثة والتراث، نجد بعضنا يلعن الحداثة والغرب وفقط، دون أن ينصفه أو ينافسه بحق، وبعضنا يلعن التراث ويدعو إلى ذبحه وحرقه!!، ولا متنفس وفضاء لفعلنا الحضارى وسط هذا الانسداد، تنسد مراجعتنا الذاتية والنقد المزدوج للذات والآخر، الحضارى أو الماضى.
الحداثة- وبعضها تراكم تراث- ليست ملعونة وليست مقدسة، والتراث- وبعضه حداثة زمانه، ويمكن البناء عليه- ليس مقدسًا ولا مدنَّسا، وكل منهما تجارب، تُقرأ وتُعتبر ويُستفاد منها ليكون الواقع، ولنصنع تاريخنا كما صنع أصحاب الحداثة حداثتهم، أو صنع أصحاب التراث حداثة زمانهم.. فى سجال الثنائية الكلامى والعاطفى تغيب الذات، ويغيب وعينا بالعالم والأزمة الحاضرة، ومعها الفعل الحضارى.
إن السؤال الأهم هو كيف نصنع حداثتنا؟، ليس عبر استخدام منتوجات الغرب، من السيارة للطيارة إلى الثورة المعلوماتية حتى الذكاء الاصطناعى، ولكن فى أن نسهم فى إنتاج ذلك والمنافسة الحضارية فى العالم، وتجاوز مشكلاتنا العتيقة، عبر تحقيق الاستقرار والمواطنة والعدل والرفاه لمجتمعاتنا ودولنا.. عبر تحقيق التنمية الشاملة، مؤسَّساتيًّا واجتماعيًّا، وتطوير مجالات التعليم والوعى والاستقرار والسلام مع الذات والآخر، فالنهضة ليست حربًا وصراعًا أبديًّا، نهزم فيه الآخرين، ولكنها الفعل الحضارى المنافس والمتقدم والمؤثر فى سباقنا مع الآخرين.
لكن لا بد لأجل هذا الوعى من الاعتراف والقابلية بتطور التاريخ وليس فقط تطور الزمن. المرأة الآن غير المرأة قديمًا، الجيل الحالى ليس هو الجيل السابق، الخلف ليسوا السلف، وكذلك مواجهة أنفسنا بحقائق العصر وواقعنا، عبر تطوير مجالات التعليم والوعى والاستقرار والسلام مع الذات والآخر، فالنهضة ليست حربًا وصراعًا أبديًّا، نهزم فيه الآخرين، ولكنها الفعل الحضارى المنافس والمتقدم والفاعل فى تقدم العالم مع آخريه.
سألنى صديق خلال نوفمبر الجارى ٢٠٢٤ عن أزمة النهضة، وهل لا تزال قائمة؟، وما الحل لها؟. أجبته أنها لا تزال قائمة، فسؤال النهضة متعلق بسؤال الفجوة الحضارية بيننا وبين الآخر، الغرب تحديدًا والشرق الأقصى أيضًا الآن، تدافعت أسئلته تليفونيًّا، وتدافعت عليه إجاباتى بأن النهضة شاملة، ولا يمكن اجتزاؤها أو اختزالها فى جانب وحيد، فهى فكر يصنع وعيًا، يصنع واقعًا وتغييرًا يتجاوز ويعبر الفجوة بيننا وبين الآخرين على مختلف المستويات، وكون هذه الفجوة لا تزال قائمة بيننا وبينهم، فى شعورنا بأزمة الهوية عند المقارنة بين تقدمهم فى بعض المجالات وتخلفنا رغم محاولة اللحاق بهم فيها، وفى سيولة سجالنا العام الذى يستشعر فاعلوه أزمتهم بين مُتَباكٍ على حجاب المرأة وآخر لا يزال يهاجمه، وبين غلبة النزوع الفردى فى الإدارة وغياب السلوك المؤسَّسى، وشخصنة كثير من جوانب وقرارات العمل المؤسَّسى، والسؤال عن الشفافية والرقابة والمؤسَّساتية، وحضور أشكال الحداثة مع غياب مضامينها، وغياب قيمها الحاكمة.
نعم، لا تنكر جهود النهضة والإصلاح العربى والإسلامى، بتعدد جهاتها وأطرافها، من مدرسة الأفغانى ومحمد عبده والكواكبى فى جهة إلى اتجاه آخر مثّله الشوام، وتلاقت جهودهم فى منجزات شاهدناها ونشاهدها، من الدستور والبرلمان والجامعة والتعليم المدنى وصوغ التشريعات وتدفق حركة الترجمة، إلى تعليم المرأة وحرية الصحافة، إلا أنها سريعًا ما هُمِّشت وأُزيحت فى بعض الفترات، وتم تفريغها من مضامينها بعد تحققها!، نتيجة التعاطى معها بمنطق الثنائية المسدودة، لعن الحداثة من قبل خصومها، أو اعتبارها ذبحًا للتراث من قِبَل أعدائها!
إن لعن الحداثة يعنى تقديس التراث، وذبح التراث يعنى تقديس الحداثة، وكلاهما خطأ تعميمى لأن كليهما محكوم بسياقه وظروفه وتحدياته، ورغم أن التراث لا يزال حاكمًا فى وعى الكثيرين، فإن من المهم التفريق بين الثابت والمتحول فيه، فالتراث المنتج البشرى نسبى ينفى ويرفض الإطلاقية ويخضع لمنطق الصيرورة لا الثبات.
على الجانب الآخر، كان تيار ذبح التراث، الذى يعنى تقديس الحداثة وكل ما هو غربى أيضًا، وهو تيار ازداد حضورًا فى السنوات القليلة الماضية، عبر بعض المنصات وعبر بعض التوجهات، فكل ما هو ماضٍ مرفوض، والمسؤولون عن تخلفنا فى زمننا الراهن شخصيات لا تنتمى إليه. رجال من هذا الماضى، هذا التراث، فالمسؤول هو البخارى وصحيحه والأحاديث النبوية، وفتاوى أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن الصلاح، والمنشور القادرى الموجود قبل ابن تيمية بثلاثة قرون، هم وراء التطرف الراهن والمعاصر، الرمزى والعنيف، وأنه لا بد من ذبح هذا التراث وحرقه بمنطق عدمية التراث، مما يستفز التيار الأول، وهو الأمر غير المقبول، فكل منهم كان استجابة لتحديات وضرورات زمنه وليس زمننا.
من المهم التمكين فى وعينا جميعًا لسؤال الذات والمسؤولية الفردية والحضارية قبل استلاب ولعن الماضى أو الآخر، عبر الوعى التاريخى بالزمن، وحقائقه الجديدة، حقيقة الوطن قبل خيالات الأمة، وقانون المواطنة وليس الأقلية، والدولة الحديثة، وليست صراعات الإمامة والشوكة، والأهم أننا نحتاج عقلًا إنسانيًّا حاضرًا يتخلص من هوس الكراهية وشهوة الصراع والتغلب!.