لماذا ينبغي على الإعلام العربي الاستثمار في الوثائقي الرقمي؟

في ظل انتشار محتوى الفيديو على المنصات الرقمية تبرز هيمنة كبيرة لصناع المحتوى المستقلين، وتسعى المؤسسات الإعلامية العربية للمنافسة والقيادة في هذا الفضاء الرقمي لكنها تواجه تحديات كبيرة، إذ أن تركيز المؤسسات الإعلامية العربية على الحضور الرقمي والاتجاهات الرائجة على حساب تحقيق أهداف توعوية وتثقيفية أدى إلى فقدان البوصلة التحريرية أحيانا، فتفاعل هذه المؤسسات الكبير مع توجهات الجمهور والوقوف في موقف المستقبل قد يفقدها دورها في التأثير وصناعة توجهات الجمهور، كما أن استعارتها أساليب المؤثرين بما فيها من مبالغة وإثارة في المحتوى والعرض قد يؤثر سلبا على مصداقيتها، وبالتالي يحد من قدرتها على قيادة الرأي العام.

إن إعادة النظر فيما تقدمه المؤسسات العربية الإعلامية في الفضاء الرقمي بات حاجة ملحة، وتبقى هناك مساحات يمكنها القيادة فيها وذلك لقدرتها على الاستثمار في الإنتاج، وتوظيف الخبرات والمهارات المعمقة في العمل الصحفي. وهنا يبرز السؤال حول حضور الفيلم الوثائقي بكافة أشكاله في المنصات الرقمية العربية. إذ لم يعد الوثائقي منحصرا في العالم التقليدي للمخرج كين بيرنز: تعليق صوتي ترافقه مقابلات لأشخاص يتحدثون مصحوبا باللقطات الأرشيفية. فقد تطورت أساليب السرد في الفيلم الوثائقي، وتنوعت موضوعاته وأصبحت صورته أكثر إمتاعا وثراء، إذ لم يعد التعليق الصوتي أساسيا، وقد تشاهد وثائقيا كاملا دون رؤية ضيف يجلس في مقابلة أمام الكاميرا، وقد تستمتع بوثائقي دون تعليق ومقابلات كما في الأفلام التجريبية، وتخوض تجربة مشاهدة فريدة مع أفلام الدوكيو دراما التي تدمج المشاهد الدرامية بالوثائقية، إضافة إلى الوثائقيات السينمائية التي تعتمد على جودة تصوير سينمائية، والوثائقيات التفاعلية التي تسمح للمشاهد بالمشاركة في تجربة السرد، كل ذلك يفتح الباب لتجارب واعدة وملهمة.

فلماذا ينبغي على وسائل الإعلام العربية توجيه الدفة والاستثمار في الفيلم الوثائقي لمنصاتها الرقمية؟

تشهد المنصات الرقمية العربية تركيزا متزايدا على صناعة النجوم في المحتوى المرئي في مقابل ذلك يتوارى الإنسان العادي والمجتمعات المحلية والمتخصصة والمبادرات وتنحسر الأماكن، ومن أهداف الفيلم الوثائقي تقديم الإنسان العادي وحكاياته وقضاياه لجمهور المنصات الرقمية، وإعادة الاتصال مع العالم فالنجوم قد يقفون بين المشاهد والعالم الذي يحكون عنه، بينما يرينا الوثائقي ما خلف النجوم ويعيد الصوت لمن وارتهم الأصوات العالية.

تحتاج المنطقة العربية لوثائقيات تحكي قصصها، فالفيلم الوثائقي هو عيننا على العالم، واحتفاء بالحياة، وسبر الواقع بحثا عن حكايا مثيرة للاهتمام، من خلاله نستكشف كوامن الإنسان وما أبدعته يداه، ومن خلاله نعرض هموم المهمشين وقضاياهم، يجد فيه الإنسان العادي حكايته على الشاشة، فيحتفي به أقاربه وأصدقاؤه وجيرانه. نستكشف فيه عوالم لم نزرها قط، التقطتها عدسة جريئة في أرض نائية، وفي ظروف جوية متطرفة، لنشاهد أشكالا من الحياة لم نكن نعرف بوجودها قط وربما لن يتسنى لنا يوما رؤيتها.

باتت هناك حاجة للتنويع في طرق عرض المحتوى المرئي إذ ينصب الاهتمام الأكبر على البرامج التي يقدمها المؤثرون والنجوم سواء كانت مدونات فيديو أو بودكاست مصور، وغيرها من البرامج التي تتكئ على الحضور الشخصي للمقدم. ورغم قلة كلفة ذلك إلا أنه يأتي على حساب الفرادة والسرد البصري الممتع، مما يوقع المؤسسات في فخ التكرار والتقليد، وهو ما يحد أشكال المحتوى المرئي المعروض عربيا.

إن استثمار المؤسسات الإعلامية العربية في مجال الوثائقيات للمنصات الرقمية يخلق مساحات واسعة للمنافسة بين صناع الأفلام، مما يرفع جودة الفيلم الوثائقي العربي. فتوجه المؤسسات نحو البرامج التي تتكئ على المقدمين يؤدي إلى انحسار إنتاج الوثائقي العربي، وهذا يؤثر على مستوى الوثائقي العربي بشكل عام. كما إن الاستثمار في الفيلم الوثائقي يدعم صناع الأفلام المستقلين ويؤدي لاكتشاف مواهب جديدة في صناعة الأفلام ويعطيها المساحة للتعبير عن ذاتها.

تتميز المنصات الرقمية بمرونتها في استقبال أشكال العرض المختلفة وأفلام على اختلاف مدتها الزمنية فهي ليست مقيدة بجدول بث كالتلفاز، وهذا يفسح مجالا كبيرا للوثائقيات القصيرة والتنويع في أشكال العرض الفيلمية.

يبقى الفيلم الوثائقي أقل كلفة من الدرامي، مع قدرته على نقل قصص مشوقة وتحقيق المتعة السمعية والبصرية. وقد قطعت المنصات الرقمية الأجنبية المنافسة بما فيها مواقع الصحف أشواطا في الفيلم الوثائقي، ومنها ما حصد جوائز مرموقة كالأوسكار.

إن تطور الفيلم الوثائقي بما يقدمه من ثراء بصري وجاذبية وقدرة على مخاطبة العقل والعاطفة، يجعله خيارا يستحق من المؤسسات الإعلامية العربية التوقف عنده، ليسهم في توسيع قاعدة جمهورها ويعزز من قدرتها على التأثير فيه.