إن المتتبع جيدا للشؤون الدولية يدرك حتما أن القوة ترتبط ارتباطا وثيقا بالأفكار، وفي هذا العصر ترتبط الأفكار مباشرة بمراكز البحث، حيث يمكن اعتبارها بمثابة كنز للدول التي تستغلها وتحسن استغلالها، ولن تحتاج لتفكير عميق عندما تلاحظ أن هيمنة الأفكار في العلاقات الدولية مثلا ترتبط بالولايات المتحدة الأمريكية والتي في نفس الوقت تستحوذ على أكبر عدد من مراكز البحث في العالم بأكثر من 1800 مركز، تليها الصين ب512 مركز وبريطانيا ب444 مركز، جل هذه المراكز لها دور فعال في صياغة استراتيجيات وقرارات الدول التي تنتمي إليها، وعلى الأغلب يعود لها الفضل في كل النجاحات المحققة.
لكن لماذا لا يسير الأمر بنفس الشكل في الوطن العربي؟ إن الكثير والكثير جدا من المشاكل التي يعاني منها العرب اليوم كان بالإمكان تفاديها لولا الدكتاتورية في اتخاذ القرارات، ألم يتسائل أحد عن سر التفوق الإسرائيلي مثلا على الدول العربية في جميع المجالات تقريبا؟ هناك أكثر من 20 مركزا للتفكير في إسرائيل وكلها تلعب دورا في السياسة الإسرائيلية الخارجية، ولعل الطغيان الصهيوني على غزة ولبنان وسوريا اليوم ماكان ليحدث إلا بعد دراسات حثيثة للمجتمعات والحكومات العربية وتشخيصها ثم حقنها بمضادات الأخوة والقومية والإنتماء ثم تطبيع العلاقات مع العرب، ليصبح الوجود الإسرائيلي مألوفا وأمرا عاديا، ومن يعرف الصهاينة حقا يدرك أن إقامة السلام معهم لن يفيد أحدا غيرهم، مهما كثرت المزايا، وحتى رؤسائهم يدركون ذلك، فقد ذكر دافيد بن غوريون فيما مضى: » لو كنت زعيما عربيا فلن أوقع أي اتفاق مع إسرائيل” إطلاقا” وهذا طبيعي «
ما يمكن ملاحظته من هذه المقولة التاريخية هو أنه إذا كان اليهود يعتبرون أنه من الطبيعي ومن حق العرب أن يرفضوا السلام مع إسرائيل، فكيف أصبحت هذه المقولة الآن بالعكس ؟ حيث أصبح من الطبيعي إقامة السلام مع إسرائيل، في حين أنه من غير الطبيعي محاربتهم.
من الواضح أن مراكز التفكير الإسرائيلية قد لعبت أدوارا كبيرة خلال العقود الماضية من خلال دراسة عقلية الفرد العربي وتحييده عن فطرته، ومن الواضح أيضا أنها قد نجحت إلى حد بعيد في تحقيق ذلك.
عموما، في مثل هذه الحالات يظهر دور مراكز البحث من خلال دراسة عدو معين أو مجتمع معين أو قائد معين، ومحاولة الإحاطة بجميع المعلومات المتعلقة به من أجل إيجاد ثغرة يمكن من خلالها تحويل فكرة معين داخله أو إفسادها، وربما يتشابه البشر والبرامج الإلكترونية، إذ لا يمكنك اختراق برنامج إن لم تكن خبيرا في البرمجة والأمن السيبراني، وكذلك الحال، لا يمكنك اختراق مجتمع إن لم تكن تعرفه حق المعرفة، وإن ما يمنحك تلك المعرفة اللازمة هو مجموعة من العقول المتخصصة التي تجمع المعلومات ثم تحللها ثم تخرج بمجموعة من القرارات ثم تدرس كل الإحتمالات التي تنتج عن كل قرار على حدة، ثم تقوم بالمقارنة بين النتائج المتحصل عليها، ليتم فيما بعد اختيار القرار الأنسب للمصلحة العامة، ولهذا تعتبر مراكز التفكير والبحوث حقا نوافذ على المستقبل.