يعتبر تهديد الملاحة في البحر الأحمر فرصةً لعودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى المنطقة من أجل تصفية الحسابات وإعادة السيطرة على ملفات هامة، بما يسمح بالتعامل مع جملة من الأهداف دفعة واحدة؛ إذ سيسمح بإرهاق الصين اقتصاديًا من خلال عرقلة صادراتها ورفع تكاليفها المتجهة إلى المنطقة العربية وأوروبا، وهو ما سيساهم في التوجه نحو طريق الهند الجديد، كما سيسمح بإعادة دول الخليج إلى كنفها فضلًا عن إحباط الاتفاق مع إيران الذي رعته الصين، بالإضافة إلى الاحتفاظ بالتهديد بالحرب الشاملة الذي أصبح خارج الحسابات الأمريكية.
إن الحضور العسكري الغربي في البحر الأحمر، وخطة تكثيفه مستقبلًا، قد يدفع نحو عسكرة البحر الأحمر، وما يترتب على ذلك من مجموعة من التداعيات على المنطقة والعالم بأسره، ويمكن تحديد مثل هذه التداعيات على النحو التالي:
1- ينعكس الحضور العسكري الغربي المكثف في البحر الأحمر على التنافس الصيني الأمريكي، حيث تنظر بكين إلى أن الصراعات تعمل على تعزيز نفوذ الولايات المتحدة على حساب التمدد الناعم للصين المعتمد على الاستقرار والجوانب الاقتصادية، إضافةً إلى ذلك تنظر الصين بقلق لأنها تعتقد أن الولايات المتحدة تسعى لتأجيج التوترات في البحر الأحمر بهدف محاصرة مبادرتها المعروفة باسم «الحزام والطريق» والتي تتخذ من البحر الأحمر نقطة التقاء الممر البري بطريق الحرير البحري، والتضييق على قاعدتها العسكرية الوحيدة في الخارج في جيبوتي.
2- تعاني البيئة المحيطة في البحر الأحمر من اضطرابات عدة، فإلى جانب التهديدات الصادرة عن مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن، نجد أن منطقة القرن الأفريقي تواجه تحديات ونزاعات طويلة الأجل، وآخرها النزاع في السودان والذي وصل إلى مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر، والتي تحظى موانئها بميزة تنافسية إقليميًا ودوليًا، وخاصةً مع محاولات روسيا وتركيا تطويرها وتشييد قواعدها العسكرية البحرية فيها، ومع تعثر المحاولات السعودية الأمريكية لحل الأزمة في السودان، فإن الشواطئ السودانية على البحر الأحمر ستظل خواصر ضعيفة تهدد أمن البحر الأحمر.
3- إن النهج الذي تتبعه الولايات المتحدة ربما يصب في صالح الحوثيين، وبالتالي إيران. ومن ثم فإن ثمة بديل أفضل يتمثل في وضع استراتيجية أمنية متعددة الأبعاد وطويلة المدى، تربط الأمن البحري بعملية السلام اليمنية. وتحتاج هذا المقاربة إلى مضاعفة الدعم المقدم للحكومة اليمنية كي تتمكن قواتها من طرد الحوثيين من الحديدة ودفعهم إلى الجبال.
4- قد يؤدي تصعيد الصراع في البحر الأحمر إلى حرب إقليمية أوسع نطاقًا ذات عواقب مدمرة على الاقتصاد؛ وما يترتب على ذلك من آثار محتملة على السكان الفقراء والمهمشين. فالهجمات على السفن التجارية وتصاعد التوترات يمكن أن يعوق جهود المساعدات الإنسانية ويؤدي إلى تفاقم معاناة المجتمعات المتضررة.
5- إن هجمات الحوثيين، تطرح تحديات أمنية وعسكرية خاصة بإطلاقها للصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة على إيلات، حيث تبعد إيلات عن مدينة العقبة حوالي 16 كيلومتر، فيما تبعد عن طابا المصرية نحو 7 كيلومترات، وهذا يعني أن الهجمات الحوثية تشكل مخاطر عدة، من حيث تأثر الأراضي العربية بعمليات الاعتراض، أو سقوط الصواريخ نتيجة لعدم دقة توجيهها، كما أن أجهزة التشويش الإسرائيلية تفقد الصواريخ الحوثية قدرة التوجيه والوصول إلى الهدف، ما يهدد بسقوطها في أراضي عربية، وقد سبق أن سقطت إحدى تلك الصواريخ في مناطق غير مأهولة بالسكان في الأراضي الأردنية .
6- ينعكس الوضع المضطرب في البحر الأحمر بصورة سلبية على مستقبل اليمن، وخاصةً على العملية السياسية التي تهدف إلى حل الأزمة اليمنية، حيث يحاول الحوثيون تحقيق شرعية وشعبية محلية تتيح لهم قوة تفاوضية أو تسهيل توسيع مناطق سيطرتهم عسكريًا، خاصةً وأنهم يحاولون إثارة السخط الشعبي عن ضعف موقف الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا تجاه الحرب في غزة. فضلًا عن تصنيف للحوثيين كجماعة إرهابية، يُعرقل جهود السعودية للحوار معهم والتوصل إلى تسوية تفضي لحل الأزمة اليمنية، حيث إن مسألة التفاوض مع جماعة مصنفة إرهابيًا يُعد أمرًا في غاية الخطر .
7- تحاول جماعة الحوثيين المزايدة على الموقف العربي، وفي وقت تجد فيه الشعوب العربية أن تلك الجماعات تُقدم على أفعال تصعيدية وعسكرية، فإن ذلك يُشكل حرجًا للنظام العربي الرسمي الذي يعتمد الحلول السياسية، إلى جانب ذلك؛ فإن هذه الجماعات أظهرت حجم المخاطر المحدقة في الدول العربية على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، ومن البر والبحر والجو، ويعد هذا تهديد لجميع دول المنطقة، وطالما أنها طبقتها ضمن عتبة منخفضة من الصراع مع الولايات المتحدة وضد أحد أوثق حلفائها إسرائيل، فمن المحتمل أن تمارسها غدًا ضد دول أخرى.
8 – تعرض هجمات جماعة الحوثيين التجارة الأوروبية للخطر، حيث أن 40% من التجارة الأوروبية وخاصةً الأوروبية الآسيوية التي تمر عبر مضيق باب المندب وهي منطقة رئيسية لإمدادات النفط الأوروبية، ومن المرجح مع تصاعد التوتر في مياه البحر الأحمر أن ترتفع معدلات التضخم في أوروبا ما يؤدي إلى أزمات اقتصادية في جميع أنحاء أوروبا التي تواجه بالفعل تداعيات اقتصادية سلبية من حرب أوكرانيا.
9- لا يزال الطرح الأمريكي بشأن تدشين قوة عمل بحرية لتحقيق أمن البحر الأحمر غير متبلور بالشكل الكافي، ولكن تحمل إرهاصاته في طياتها قدرًا من العجلة الأمريكية التي تؤشر بوضوح على وجود تخوفات ملموسة من اتساع نطاق الصراع الحالي بشكل قد لا يمكن ضبطه. وفي الوقت الذي تبدو فيه الفكرة غير جديدة ومتربطة بالملاحة في البحر الأحمر، فإن ارتباطها عضويًا بالرغبة الأمريكية في الحفاظ على أمن إسرائيل، واستمرار واشنطن في رفضها لكافة دعوات وقف إطلاق النار، قد يجعل بعض الدول العربية المدعوة مترددة في الاستجابة لهذا المقترح.
10- يؤدي الارتفاع الكبير في الحوادث البحرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي إلى خلق مساحة لتزايد حوادث القرصنة والاتجار غير المشروع، كما أن تحويل مسار الشحن حول بقية أفريقيا يخلق المزيد من أهداف القرصنة في أماكن أخرى، خاصةً حين يتعين على المزيد من السفن الإبحار بالقرب من الساحل.
يمكن القول إن الانخراط نحو عسكرة البحر الأحمر قد يقود إلى تداعيات سلبية على الممر الملاحي الدولي الذي أثبتت تلك الأحداث حيويته للاقتصاد العالمي، وهو ما يدعو إلى إمكانية التفكير مجددًا في إحياء بعض المبادرات الإقليمية، وذلك حتى يمكن مجابهة الأخطار الحالية والمستقبلية سواءً أكانت تلك التحديات متوقعة أم طارئة.