النجاح الذي لم يحققه أحد!

الفشل في كل مكان، يطاردنا ويركض خلفنا بشراسته المعهودة، يريد أن يفتك بنا، وبدون أدني شك إن تحقيق الفشل هو أمر سهل، وبسيط، هو في الحقيقة أسهل ألف مرة من محاولة تحقيق نجاح صغير. الفشل يأتينا في أشكال مغرية، وألوان زاهية ووردية، بينما النجاح لا يأتينا ونحن نتوسد مخدّاتنا، ونراقب سقف الغرفة باستمرار، نتابع خطوط الستائر المتعرجة، والجدران. وحينما نملُّ من منظر الشقوق، والفتحات الصغيرة التي على السقف والجدران نُطلق موجات مدمِّرة من السب، والشتم على الحياة، العالم، والناس، وربما في أكثر اللحظات صدقاً نطلق تلك اللعنات على أنفسنا. ولكن ما الذي يجعل تحقيق النجاح أمراً صعباً؟ ويجعل من تحقيق الفشل أمر بسيط، وسهل كشربة ماء؟

حسنا.. تبدو الإجابة على هذين السؤالين دون الدخول في عوالم التنمية البشرية أمر مستحيل، من دون الاتكاء على حدائقها المخضرّة، وقطف ثمارها اليانعة والطازجة كما يقول روّادها. ولكن لا بأس من مداعبة المستحيل، وعناقه ولو للحظات قليلة، ولا بأس أيضاً من الابتعاد عن حدائق التنمية البشرية، التي هي -حسب رأيي- حدائق الأحلام، والأوهام، والمستحيل. لذلك سأحاول الاجابة عليهما، أي على هذين السؤالين من منطلقات بعيدة، وقصّية عن كل ما هو حلم، من أماكن تبعُد عن مدارس التنمية البشرية، وتياراتها مقدار فكرة، من اتجاهات فكرية تأخذ الاتجاه المناهض، والمعاكس لما هو وهم وخيال.
بدايةً، إن كلمة نجاح تعني ببساطة تحقيق شيء ما، وبطريقة جيّدة، أو بطريقة ترضي طموحنا، وهي تعني أيضاً الوصول إلى هدف ما، أو غاية ما في نهاية المطاف، والشعور بالرضا حيال ما نقوم به. وبهذا يكون النجاح شعور داخلي، يحسه الفرد في أوصاله، يجري في دمه، يجعله يبتسم، يفرح، يصرخ، ويقفز أحيانا من فرط السعادة والنشوة. إذا أراد شخص ما أن يثقب بالونا معلقا في إحدى الزوايا، وثقبه بالفعل بإبرة فتلاشى الهواء من داخله، فهنيئا له، لقد حقق نجاحاً، وإذا أرادت سيدة طاعنة في السن أن تغلق باب غرفتها، أو أن أطفئ أضواء الغرفة، وفعلت ذلك، فذاك النجاح بأم عينه. لا أحد يستطيع المجادلة في هذا الأمر، بل هي تستحق -أي تلك السيدة- موجة من التصفيق كتلك التي ينالها من ألقى كلمة مهمة أمام جمع عام.

ومن هنا، فإن مفهوم النجاح يختلف من شخص لآخر، وهذا هو مربط الفرس، والحجة التي نرتكز عليها في هذا الطرح. لا نجاح واحد، النجاحات تختلف وتتنوع. فعلى سبيل المثال أحدهم كان يرى في أخذ خطوتين إلى الأمام نجاحاً لا يمكن تجاهله، بينما ألف خطوة قد تساوي فشلاً ذريعاً عند من يخوض سباق الألفي متر. هذا أمر يتفق عليه الجميع، والأمر المربك والمخيف أحياناً أن فشلا صغيراً قد يفسد حياتنا، بينما لا يرمم أنقاضها نجاح كبير. ومن أجل ذلك فإن جمع العشرات من الناس والقاء محاضرة أمامهم، تحت عنوان: “كيف تحقق النجاح؟” هو أمر ينبغي أن نقف عنده طويلا، ونحسب له ألف حساب، فليس نجاحي نجاحك، وليس نجاحك نجاحي.

المشكلة أن كلمة النجاح أصبحت مرتبطة دائما بالأشياء الكبيرة، مرتبطة بحمولة لا تقدر هذه الكلمة على حملها، أصبحت “كلمة نجاح” مربوطة بحبل متين إلى عنقها حد الاختناق، وربما يستغلها بعض الناس في الحصول على عائد مادي، هنا لا أتهم أحداً، ولا أرمي إلى التقليل من شأن محاضرات التنمية البشرية التقليدية، ولكن ما أرمي إليه هو القول: إن كلمة نجاح أصبحت كالسلعة في سوق الكلمات، سلعة غالية الثمن، يشتريها أشخاص معينين، وفقاً لظروف محددة، ونتيجة لذلك أصبحت محصورة في أشياء معينة، مثل دخول الجامعة، الحصول على شهادة الماستر، التقدم في الحياة العملية، والعلمية وغيرها. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نشعر بأن تحقيق النجاح أمر صعب بينما هو في الحقيقة أمر بسيط وعادي.

بعد أن تمت برجمة أدمغتنا بتلك البرامج، وتلك التطبيقات والصيغ من “النجاح” أصبحنا لا نرى سواها، أو لا نشعر بغيرها، أيِّ نجاح لا يرهق لا نعتبره نجاحاً، أي نجاح لا يجلب المال لا نعتبره نجاحاً. ومؤخراً تم ربط النجاح بتحقيق المال، بصورة أو بأخرى. فالرجل الناجح هو من يحقق مالا كثيراً، والمرأة الناجحة هي من تحصل على رجل غني، أو بعبارة أخرى، الشخص الناجح هو الشخص الثري، الذي يملك قدراً من المال وهذا ما يجعل النجاح أمر صعب للكثيرين، ويتحول الهدف في النهاية من تحقيق النجاح إلى تحقيق المال، والفرق بين الإثنين شاسع وكبير.
وربما لو قلتَ لأحدهم ذات نقاش عادي إن إشعال عود ثقاب يعتبر نجاحاً لا يُقدّر بثمن لضحك وسخر منك، ووصفك بالمعتوه والمجنون. وربما قدّم لك نصيحة بحضور ندوة “النجاح الحقيقي” في هذه الحالة ما عليك إلا أن تسرد له قصة “الرجل الذي أحرق القرية بلا يد”.

“يحكى أن رجلا أراد أن ينتقم لعائلته التي قُتلت حرقاً ذات غدر. كان يحمل علبة كبريت، يريد أن يحرق بها قرية أعداءه لينتقم لنفسه، ويأخذ بثأره، ويشفي غليله، ولكنه لا يقدر على اشعال عود ثقاب واحد نسبة لأن كفتا يداه محروقتان. هنا جلس الرجل طويلاً يفكر في طريقة ما لإشعال عود الثقاب ورميه في القش لإشعال النيران قبل عودة الأعداء. وبعد لحظات من التفكير، وضع الرجل عود ثقاب بين أسنانه، أمسكه بإحكام ومن ثم أمسك بالعلبة بكلتا يديه -لم يتبقى منهما إلا ساعدان قصيران بلا كف- وبعدها أشعل عود الثقاب بعد عدّة محاولات. وبعد أن رأى النيران مشتعلة، شعر الرجل بأنه حقق نجاح منقطع النظير، لأن أعداءه تركوه يومها لأن يداه غير كاملتين”. في هذه الحالة فإن اشعال عود الكبريت الذي لا يعتبره البعض نجاحاً، وربما يعتبرونه فشلا، يعتبره هذا الرجل نجاحا لا يقدر بثمن.

ومن هنا نستنتج أن الذي يجعل من تحقيق النجاح أمرا صعباً ليس لأن النجاح يتطلب جهداً، ووقتا، وصبراً، وطموحاً لا يمتلكه الجميع، وإنما لربط مسألة النجاح بتحقيق المال، وهذا اتجاه سائد، تمخض عن ربط كل شيء بالمال، التعليم، الحصول على شهادات، وحتى العواطف، وبالتالي أصبحت النجاحات الصغيرة التي لا تقود إلى الحصول على المال هي نجاحات غير مُعتبرة، هذا ما تعلمنا إياه التنمية البشرية في خفاء.

أما السبب الذي يجعل الفشل يحيط بنا من كل جانب، ليس لأننا كسالى، ولا نمتلك الرغبة، والطموح، ولم نحدد أهدافنا بدقة كما نسمع في محاضرات التنمية البشرية، وليس لأن الفشل يأتي على حين غرة، حاملا معه من المغريات الكثير، وإنما لأن نجاحنا الصغير الذي حققناه يُصوُّر على أنه فشلاً طالما أنه لا يتسق مع قائمة النجاحات الموجودة في السوق، أعني سوق الكلمات، والعبارات، والقيم. وبالتالي يصعب تحقيق نجاح يرضي ذواتنا، ويصبح من المستحيل الوصول إلى نجاح، لأن النجاح بهذه الطريقة لن يحققه أحد.