ماذا لو حلت الـ”نحن” محل الـ”اأنا” هل سنصبح أكثر سعادة؟

ماذا لو توقفت الأنانية المفرطة والتنافسية المحمومة المتفشية اليوم في أروقة السياسة وسائر مؤسسات المجتمع وعلى منصات التواصل الاجتماعي؟ وماذا لو توقف البشر عن منافسة ذواتهم في سعي محموم نحو الكمال والفرادة؟ وهل فعلا نحتاج كل هذا الصراع على المال والشهرة والسلطة لنكون سعداء!

في كتابه تاريخ الغطرسة يقول آري تورنين: “من المفاهيم الخاطئة عن السعادة أنه يجب على الإنسان أن يحقق شيئا ليكون سعيدا أي يجب أن يصير مشهورا أو ذا مكانة اجتماعية ويفضل أن يكون كليهما.
ويضيف أن الحروب والطبقات الاجتماعية تأتي نتيجة التمركز حول الذات بصورة مفرطة كما يزعم ستيف تايلور”.

عالم أقل أنانية وتنافسية

تعالوا نتخيل كيف سيكون العالم بدون هذه التنافسية الشديدة والأنانية المتضخمة التي تطحن عالمنا اليوم؟

غالبا سيكون الناس أكثر تعاونا وراحة نفسية عند انحسار التنافسية، وبالتالي انحسار الصراع والحسد. سيؤدي ذلك إلى تعزيز العمل الجماعي والتشارك والعطاء وتحسين جودة الحياة وذلك بتخفيف الضغط النفسي وتقليل الفجوات الاجتماعية.

ماذا سيحدث أيضا؟ بدلا من السعي وراء التفوق الفردي، سيهتم الناس بتحقيق أهداف مشتركة، مما يعزز من الابتكار والإبداع دون خوف من الفشل.
يقول آري تورنين: ” عندما حاول المبشرون أن يجعلوا شعب بابوا غينيا الجديدة” متحمسا للعب كرة القدم، لم تهتم الفرق بالفوز وإنما استمرت في اللعب حتى تحقق التعادل. كما أن السكان الأصليين في أستراليا والمعروفين باسم “الأبوريجينيون” يمقتون فكرة الانتصار على الآخرين”.

كيف سيكون شكل الحوار؟ بما أن إفحام الطرف الآخر وإثبات أنه على خطأ لم يعد هدفا، فإن الوصول إلى الحقيقة سيصبح غاية المتحاورين، فلا منتصر هنا سوى الحقيقة! حينها سينتهي الاستقطاب، فالأفكار لا الأشخاص هي موضع النقاش، ولا أهمية للتقليل من قيمة الآخر، أو تشويه سمعته لإثبات أنه على خطأ.
وحين نتحدث عن جودة الحوار فنحن نتحدث عن أهمية الاستماع بقدر أهمية الحديث، وعن الاحترام بدلا من الازدراء، والتفاهم والتعاون بدلا من الشقاق والنزاع. حينها ستتحسن العلاقات الاجتماعية، فيصبح المجتمع أكثر انسجاما وسعادة.

كما أن انحسار التنافس السلبي والأنا المتضخمة سيؤدي إلى تقليل استهلاك الموارد الطبيعية والصناعات الكثيرة التي لا نحتاجها، وتبني المجتمع سلوكيات استهلاكية أكثر ترشيدا ومسؤولية وأقل استعراضا ومباهاة، وبالتالي تقليل الأخطار الناجمة عن تغير المناخ والتي باتت تهدد سكان الكوكب بأكمله.

كما يمكن أن تتجه المؤسسات والأفراد نحو أهداف أكثر أخلاقية وإنسانية، بدلا من السعي المحموم نحو تحقيق الأرباح ومصالح الأفراد، مما يعزز التوازن وتحقيق المصلحة العامة.

وعندما يتحقق كل ما سبق هل ستنشب كل هذه الحروب؟

التعاون والتراحم في مواجهة التنافسية المفرطة في الكتاب والسنة النبوية

ثمة آيات قرآنية وأحاديث نبوية نحتاج لإحيائها اليوم، تحث على التعاون والتضافر والرضا والتواضع من أجل مصلحة الفرد والمجتمع، بدلا من التنافسية السلبية والأنانية المفرطة:

ففي الحث على العطاء والتعاون قال جل وعلا: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون”.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم ، وتَرَاحُمِهِم ، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى”. (أخرجه البخاري ومسلم)

وقال أيضا : “والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ”. (أخرجه البخاري ومسلم)

وفي أدب الحوار يقول تعالى:
“ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”.

وفي نبذ تضخم الذات والأنا يوصي لقمان ابنه كما في قوله تعالى: “وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ”.

وليس أوضح مثالا في القرآن من قصة قارون عما يثيره الاستعراض والفخر بالأملاك في نفوس الآخرين:

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّٰبِرُونَ”.

وحول المعنى ذاته يقول عليه السلام: “ليسَ الغنى عن كثرةِ العَرَضِ ولَكنَّ الغِنى غنى النَّفسِ”. (أخرجه البخاري ومسلم)

إن تعزيز التعاون والتراحم بدلا من التنافسية والأنانية سينعكس إيجابا على الفرد والمجتمع، فيصبح أكثر صحة وأكثر قدرة على العطاء وأقل قلقا وإجهادا، إذ تعطى الأولوية لتلبية الاحتياجات الإنسانية الحقيقية لا ما يسوق لها كاحتياجات اليوم، ولما فيه مصلحة الفرد والمجتمع، وما يحفظ له ما يضمن بقاءه من موارد طبيعية.