بالرغم من مرور ما يقرب من عامين ونصف على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وما أحدثته من موجة من الصدمات في مختلف أنحاء العالم، إلا أنه لم تقتصر ساحة المعارك بين الدولتين على أوروبا الشرقية، وتخطت ذلك إلى الدول الافريقية، حيث اتهمت وزارة الخارجية الروسية أوكرانيا بفتح جبهة ثانية للقتال بأفريقيا بعد الهجوم على قوات فاغنر في مالي.
كما قامت مالي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، ووصفتها بأنها دولة داعمة للارهاب واتهمتها بتقديم معلومات استخباراتية للمتمردين في كمين ضد الجيش المالي. وذلك على اثر اندلاع اشتباكات مسلحة بين جماعة الطوارق (جماعة في شمال مالي أعلنت استقلالها في عام 2012) وقوات الحكومة المالية التي عززت هجومها بالاستعانة بقوات فاغنر ، في الفترة ما بين 25 و27 يوليو 2024 ، في بلدة تين زاوتين الحدودية في شمال مالي، بالقرب من الحدود الجزائرية. وقد أعلن الجيش المالي ومجموعة فاجنر الروسية سقوط عدد كبير من جنودهما.
وبينما نفت أوكرانيا بشكل رسمي تورطها في هذه الواقعة، إلا أن هذه الاشتباكات طرحت عدد من التساؤلات حول مدى حقيقة تورط أوكرانيا من جهة، وإحتمالية إستخدامها من قبل حلفائها الغربين لمحاربة النفوذ الروسي في الساحل الافريقي عن طريق دعم الجماعات الانفصالية من جهة ثانية ، ومدى قدرة الشركات العسكرية الخاصة الروسية في تحقيق نجاح مستدام في المناطق المضطربة مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من جهة ثالثة؟
أكبر هزيمة لفاغنر في أفريقيا
على غير المعتاد اعترفت فاغنر بتكبدها خسائر كبيرة في الاشتباكات في مالي، وكان من بين ضحاياها أحد قادتها، سيرجي شيفتشينكو. كما أفادت بعض مواقع التواصل الاجتماعي تليجرام التابعة لمجموعة فاغنر، بأن عدد قتلاهم بلغ أكثر من 80 عنصرًا، إلى جانب أسر نحو 15 آخرين، وهو عدد من الخسائر لم تحظى به فاغنر قبل ذلك في أفريقيا جنوب الصحراء. وبين عامي 2020 و2021 اجتاحت موجة من الانقلابات العسكرية غرب أفريقيا، وكانت مالي واحدة منها، حيث سعى المجلس العسكري الذي أنهى التواجد الفرنسي ، إلى الحصول على مساعدة عسكرية وسياسية من الكرملين، مقابل النفوذ السياسي والموارد، والوصول إلى مناجم ذهب وأدى هذا التعاون إلى نشر قوات فاغنر في مالي.
وبينما تتزايد تبريرات فاغنر لهذه الخسارة سواء ما يتعلق بوجود عاصفة رملية شديدة وتضاريس صعبة مكنت الطوارق من استعادة قوتهم .. إلا أن هذه الخسارة قد يترتب عليها عدد من الأمور الخاصة بمستقبل فاغنر في أفريقيا أهمها :
- المساهمة في تقويض ثقة بعض القادة الأفارقة في قدرة روسيا على مواجهة الجماعات الارهابية وجماعات التمرد، وأن الاعتماد على روسيا وحده لن يساهم في مواجهة هذه الجماعات، مما قد يجعل بعضهم يسعى لتنويع تحالفاته والبحث عن تحالفات إقليمية بجانب الوجود الروسي.
*تشجيع جماعات التمرد المعادية لفاغنر للسير على نهج طوارق مالي ومهاجمتها، على أمل تحقيق انتصارات ميدانية، مدعومة بشكل أو بآخر من الحكومات الغربية، وبالتالي قد يترتب على ذلك خلق جبهة إفريقية معارضة لفاغنر في مناطق انتشارها تتسبب في إلحاق بها مزيد من الخسائر المادية والبشرية. - الإعلان الرسمي عن فاغنر، أي إعلان فاغنر عن عملها كجهة مسلحة رئيسية مشاركة في العمليات مع الجيش المالي، وليست جهة سرية، خاصة أن مستوى مشاركة فاغنر يجعلها حاليًا رابع أكثر الجهات المسلحة نشاطًا في مالي، بعد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية في منطقة الساحل، والجيش المالي. وهو ما يكذب نفي الحكومة المالية وجود قوات فاغنر تشارك في القتال معها ضد المتمردين، والإشارة إلى هذه القوات على أنهم مدربون روس و وخبراء اتصالات وجنود.
- تزايد القيود التي تواجه القوات العسكرية الخاصة الروسية في تحقيق نجاح مستدام في المناطق المتقلبة مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خاصة مالي وقبلها موزمبيق ، فبالرغم من إثبات مجموعة فاغنر نجاحها في مواجهة التمرد في أفريقيا الوسطى، لكن الوضع يختلف عند مواجهة المتمردين في مالي من مواجهة تحديات كبيرة بسبب قوة هذه الجماعات وعلاقاتها بالتنظيمات الارهابية كتنظيم القاعدة وحصولها على دعم سري من بعض دول الاقليم.
- تشويه روسيا عن طريق استغلال الغرب هذه الواقعة للترويج للرأي العام الافريقي لفشل فاغنر في مواجهة الارهاب، وأن خروج القوات الفرنسية وانهاء بعثة الامم المتحدة “مينوسما” MINUSMA، سيترتب عنه زيادة العمليات الارهابية، وأن هذا التراجع أتاح الفرصة للجماعات الإرهابية لتعزيز نفوذها في مالي.
تورط أوكرانيا حقيقة أم إدعاء؟
في خضم عدم وجود أدلة واضحة على دعم أوكرانيا للطوارق، تراوحت التحليلات ، بين من يرجح عدم تدخلها وفق ما أعلنت كييف، بسبب انشغالها في حربها مع روسيا على أرضها وعدم سعيها فتح جبهة قتال جديدة من ناحية ، ونفي تنسيقية الحركات الوطنية الأزوادية عدم وجود تعاون عسكري بين الطوارق وأوكرانيا من ناحية ثانية. وبين من يرجح مشاركة أوكرانيا وإن اختلفت نوعية هذه المشاركة من تقديم الدعم الاستخباراتي والدعم العسكري وصولًا للمشاركة بتدريب بعض الطوارق، والحديث عن نشر أوكرانيا مدربين عسكريين لمساعدة الطوارق في توغلها ضد فاغنر.
إلا أنه مع ذلك يمكن القول أن هناك عدد من الدلالات ترجح مشاركة أوكرانيا في هذا الهجوم ومنها تصريحات المخابرات العسكرية الاوكرانية، حيث أعلن أندريه يوسوف، المتحدث باسم المخابرات العسكرية الأوكرانية أن المتمردين في مالي تلقوا معلومات ضرورية، مما مكنهم من عملية عسكرية ناجحة ضد مجرمي الحرب الروس وأن هناك المزيد في المستقبل. وفق وصفه. وقد أكدت هذه التصريحات وجود دعم استخباراتي ومعلوماتي أوكراني للطوارق بأماكن فاغنر وعددهم، ولكنها لم تؤكد مشاركة كييف في القتال من خلال قوات خاصة.
هذا بالاضافة، إلى وجود صور وفيديوهات توثق الوجود الأوكراني، حيث نشرت صحيفة كييف بوست الاوكرانية صور تظهر المقاتلين الطوارق وهم يحملون العلم الأوكراني، فضلًا عن صور أخرى تم تداولها في تقرير لصحفي من الطوارق أظهرت رجلين يرتديين ملابس مختلفة قليلاً عن بقية المتمردين، كما ذكرت صحيفة أطلس نيوز. “كانت ملابسهما تشبه ملابس المتعاقدين العسكريين الأجانب الذين نراهم عادة في الشرق الأوسط”. وعلى الرغم من أن هذا قد يأتي في إطار حرب المعلومات بين الطرفين، إلا انها تشير إلى احتمالية وجود عناصر من الأوكران لتدريب الطوارق عسكريًا.
سبب اخر متعلق برغبة أوكرانيا تطويق التواجد الروسي عن طريق أوكرانيا التوغل في أفريقيا ومواجهة روسيا في مواقع نفوذها ، ولعل ما يدل على ذلك افتتاح أول سفارة لكييف في موريتانيا في مايو 2024 ، وهي دولة تقع في شمال إفريقيا شمال غرب مالي. وذلك عقب توتر علاقاتها مع مالي بسبب توغلات الاخيرة ومعها فاجنر واختراقهم الحدود الموريتانية. وتدرك أوكرانيا أن روسيا اعتمدت في تغلغلها داخل إفريقيا على استراتيجية الأمن مقابل الموارد، والتركيز على الدول التي تمتلك موارد طبيعية كبيرة، بحيث تحصل روسيا على جزء من هذه الموارد مقابل توفير الأمن للدول التي تستعين بخدماتها، واستخدام هذه الموارد في حربها ضد أوكرانيا.
من أين جاءت أسلحة الطوارق؟
شهدت الاشتباكات وجود أسلحة متقدمة مع الطوارق استطاعت من خلالها إلحاق الهزيمة بفاغنر، وذلك من استخدام الأسلحة الثقيلة والطائرات من دون طيار والمركبات الانتحارية، فإذا كانت المعلومات الاستخبارتية بشأن القوات وعددهم وأماكن تواجدهم قد حصلت عليها من أوكرانيا ، فمن أين جاء الطوارق بهذه الأسلحة المتطورة..؟ وذلك بالرغم من أنه في اليوم الأول من الاشتباكات تمكنت فاغنر من القضاء على معظم المتمردين، وأجبرت الباقين منهم على الفرار. ويرجح دخول هذه الأسلحة للمتمردين من قبل الجزائر بدعم من الولايات المتحدة الامريكية، وذلك لعدة أسباب:
*تدهور العلاقات الجزائرية الروسية: بدا مظاهر هذا التدور في ثلاث أمور أولهما : اعتراض الجزائر عن اقتراب قوات فاغنر من حدوها ووصولها لقرية تين زواتين التي تقع مباشرة على حدودها وهو ما يمس أمنها القومي. ثانيهما: استبعاد الجزائر من الانضمام لمنظمة البريكس، لاسيما مع تطلعاتها للانضمام إلى المجموعة، واعتبارها دلالة على عودة القوة للقيادة السياسية في البلاد، مما تسبب في إحراج القيادة السياسية أمام الرأي العام الجزائري. ثالثهما: سعي روسيا تشجيع هجرة ملايين الافارقة لاوروبا، لنشر عدم الاستقرار، وذلك في الوقت التي تعتبر فيه الجزائر من أكثر الدول في شمال إفريقيا تأثرًا بظاهرة الهجرة غير الشرعية، وعانت السنوات الأخيرة من زيادة موجات هجرة الأفارقة نحو وعبر الجزائر بسبب اضطرابات الوضع الأمني في منطقة الساحل. مما شكل تحديًا أمنيًا بالنسبة للجزائر نتيجة جملة التداعيات الناتجة عنها خاصة بعد تحول الجزائر من دولة عبور إلى موطن استقرار. ويؤكد مخاوف الجزائر إعلان المجلس العسكري في النيجر المدعوم من روسيا إلغاء قانون مكافحة تهريب المهاجرين غير الشرعيين في أواخر عام 2023 ، وقد نجم عن ذلك، انتعاش الهجرة غير النظامية للنيجريين وبعض دول الساحل الافريقي نحو الجزائر وتونس وليبيا.
*اتهامات المجلس العسكري المالي للجزائر: اتهم المجلس العسكري الحاكم في مالي، الجزائر بالقيام بأعمال عدائية وبالتدخل في شؤون البلاد الداخلية، كما انهى المجلس العسكري العمل باتفاق السلام لعام 2015 مع الطوارق والذي تم بوساطة الجزائر، مما قوض جهودها التي تبذلها في إطار الوساطة الدولية لمواجهة الصراع ، ورسالة للجزائر بأنها لم تعد فاعلة في منطقة الساحل التي توجد على حدودها أمام تصاعد النفوذ الروسي والتركي في تلك المنطقة.
*زيارة وفد الافريكوم للجزائر : زار وفد عسكري أميركي رفيع المستوى إلى الجزائر في 23 يوليو 2024 للتباحث مع الجزائر ومن بين الملفات التي تم مباحثتها محاربة الارهاب. وبحسب التقديرات فأنه تم التباحث في هذه الزيارة كيفية مساعدة الجزائر الولايات المتحدة الامريكية للتضييق على فاغنر في مالي، حيث إن ما هو على المحك بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية وفرنسا ليس فقط السيطرة على تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الارهابية بوجه عام، بل أيضًا مواجهة النفوذ المتزايد لروسيا وإيران والصين، لذلك فأن هناك استراتيجية جديدة تتمثل في مواجهة النفوذ الروسي عن طريق فاغنر بدعم التنظيمات الانفصالية وتزويدها بالأسلحة عن طريق دول الجوار ذات المصالح المشتركة. كما نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريراً دعت خلاله إلى ضرورة أن تعمد واشنطن وحلفاؤها الغربيون لاستغلال المتغيرات الراهنة لممارسة ضغط كامل على السلطات في مالي، لفك ارتباطها بروسيا من جهة ومواجهة توغل فاغنر من خلال حلفائها في الساحل الافريقي من جهة ثانية.
انعكاسات مستقبلية
من المرجح أن تسفر هذه الاشتباكات وما تبعتها من تصعيد دبلوماسي إلى تعقد الوضع الراهن ، وفتح جبهة جديدة للصراع الروسي الاوكراني في مالي، في ظل التخوفات من انتقاله لدول أفريقية أخرى مثل النيجر وبوركينا فاسو.
فعلى مستوى الجماعات الارهابية والمتمردة ، فسوف تزداد فرص جماعة نصرة الإسلام والمسلمين لتعزيز نفوذها في وسط مالي، وهي المنطقة التي تصدرت أولويات تنظيم القاعدة خلال العام 2024م، وفق الأمم المتحدة، فضلًا عن تقوية الطوارق وزيادة محاولاتهم الانفصالية وسعيهم استعادة بعض المناطق التي سيطر عليها الجيش المالي، ورفض أي محاولات للسلام مع المجلس العسكري الفترة الراهنة.
أما على الجانب الروسي، فمن غير المرجح أن تقلل روسيا من وجودها في مالي على الرغم من الخسائر بسبب المصالح الاستراتيجية للكرملين في مالي ومنطقة الساحل بشكل عام، لذلك سوف يكون هناك مساران متوازيان لتحركها الاول : زيادة الدعم المقدم لفاغنر لإعادة ترتيب صفوفها وشن حملة عسكرية قوية في شمال مالي في محاولة لرد الاعتبار مرة أخرى بعد هزيمتها الكبيرة، أما الثاني: يتمثل في الاسراع في الانتهاء من تدشين الفيلق الافريقي الذي أعلنت روسيا عن تدشينه في مطلع 2024 .
أما على الصعيد الاوكراني، فأنها لن تكون هذه هي المرة الاخيرة التي تشارك فيها أوكرانيا في مواجهة فاغنر في أفريقيا، ومن المتوقع أن تستمر في تقديم الدعم لعدد من الجماعات المتمردة التي تواجه فاغنر في مالي ودول أخرى، بدعم من الولايات المتحدة الامريكية.
كل هذه التعقيدات سوف تزيد حدة الصراع الدولي في الساحل الافريقي، واستمرار اعتماد أطراف الصراع على الترتيبات الأمنية وتجاهل الاحتياجات الاقتصادية والمشاريع التنموية وتطوير البنية الاساسية، مما سيؤدي إلى مزيد من خلق فراغ في السلطة وزيادة التنظيمات الارهابية، بسبب الافتقار إلى الحكم الرشيد، وعدم تلبية الاحتياجات اليومية للمواطنين، لا سيما أن انعدام الأمن الغذائي، كان في الواقع المحرك الأساسي لتجنيد الإرهابيين في المنطقة .
ختامًا … لم تعد منطقة الساحل الافريقي الجبهة الأكثر نشاطًا في الصراع العالمي ضد الإرهاب والمكان الذي ركز عليه تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية فحسب، بل أصبحت موقعًا للصراع الدولي، في ظل الإدراك بالأهمية الجيوستراتيجية لهذه المنطقة وتمتعها بالكثير من الموارد. وهذا يعني أننا بصدد حلقة جديدة من الحرب بين روسيا وأوكرانيا والتي من شأنها إحداث مزيد من الانقسام في مالي. والأرجح أن الأيام المقبلة سوف تشهد مزيداً من العنف.
- باحثة مصرية متخصصة في الشؤون الإفريقية