نجح فريق دولي من العلماء في تفكيك أحد أكثر الألغاز تعقيداً في جسم الإنسان، وهو الدماغ الذي تمكنوا من التوصل إلى الخريطة الأكثر وضوحاً وأكثر إثارة حتى الآن، حيث تبين بأن الدماغ يضم أكثر من 139 ألف خلية عصبية، وبين هذه الخلايا يوجد أكثر من 50 مليون اتصال.
وقال تقرير نشرته جريدة «دايلي ميل» البريطانية، واطلعت عليه «القدس العربي» إن هذه الخريطة هي أكثر خريطة تفصيلية للدماغ على الإطلاق، وتحتوي على صور مذهلة، وأضافت: «يعتبر هيكل الدماغ أحد أكثر الألغاز تعقيداً وإرباكاً في الكون».
ونجح فريق دولي من العلماء في إنشاء أول خريطة توضح كل خلية عصبية واتصال في دماغ شخص بالغ.
ويكشف «مخطط الأسلاك» هذا، الذي أنشأه اتحاد «FlyWire» عن كل خلية عصبية من الخلايا العصبية البالغ عددها 139255 خلية، مع وجود 50 مليون اتصال بينها، فيما توصل العلماء إلى هذه الخريطة عبر دراسة دماغ ذبابة الفاكهة التي يعتبرون بأنها قريبة من حيث الشكل إلى دماغ الإنسان.
وفي حين أن الدماغ البشري يحتوي على خلايا عصبية أكثر بحوالي مليون مرة من تلك الموجودة في ذبابة، يقول الباحثون إن هذا يقربنا من فهم عقولنا.
ويقول الدكتور غريغوري جيفيريس، أحد قادة المشروع من جامعة كامبريدج: «مخططات الأسلاك الدماغية هي خطوة أولى نحو فهم كل ما يهمنا – كيف نتحكم في حركتنا، أو نرد على الهاتف، أو نتعرف على صديق».
وعلى الرغم من أن دماغ ذبابة الفاكهة البالغة يقل عرضه عن مليمتر واحد، إلا أنه لا يزال بنية معقدة للغاية للدراسة، حسب ما يقول العلماء.
ولإنتاج هذه الخريطة الرائدة، تم قطع دماغ ذبابة الفاكهة البالغة بعناية إلى 7000 جزء يبلغ سمك كل منها 40 نانومتر فقط، ثم تم مسح كل جزء على حدة باستخدام مجهر إلكتروني عالي الطاقة للكشف عن الخلايا الفردية التي يتكون منها الدماغ.
واستغرقت مجموعة البيانات الناتجة 100 تيرابايت من التخزين، وهو ما يعادل 2500 فيلم عالي الدقة.
وطور الباحثون ذكاءً اصطناعياً قادراً على إعادة بناء خريطة الدماغ من خلال تحديد كل خلية عصبية واتصال. ومع ذلك، ونظراً لأن الذكاء الاصطناعي كان لا يزال عرضة لبعض الأخطاء، فقد قام فريق من 287 باحثاً من أكثر من 76 مختبراً حول العالم بتمشيط مجموعة البيانات بالكامل للتحقق من الأخطاء.
وإذا كان شخص واحد يعمل بلا توقف للتحقق من البيانات، فإن الباحثين يقدرون أن الأمر كان ليستغرق 33 عاماً لإكمال المشروع.
وفي حين أن الجهد كان هائلاً، فإن المكافأة هي الخريطة الأكثر تفصيلاً لدماغ أي حيوان تم إنتاجها على الإطلاق.
وتم نشر هذه الخريطة في ورقتين بحثيتين في مجلة «Nature» وتم إتاحتها علناً لعلماء آخرين. ومقارنة بالمحاولات السابقة لتفصيل مناطق صغيرة من دماغ الذبابة، تحتوي هذه الخريطة الجديدة على سبعة أضعاف الخلايا العصبية وتسجل 54.5 مليون اتصال فردي.
وفي السابق، كانت أكبر الأدمغة التي تم رسم خرائطها بالكامل تنتمي إلى يرقات ذبابة الفاكهة التي تحتوي على 3016 خلية عصبية أو الديدان الخيطية التي تحتوي على 302 خلية فقط.
وهذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها العلماء من رسم خريطة لدماغ حيوان يمكنه المشي والرؤية والانخراط في سلوك معقد.
ويعتقد الباحثون أن هذا يمكن أن يمهد الطريق لفهم الديناميكيات الأساسية التي تسمح بالسلوك المعقد.
ويقول الدكتور جيفيريس: «يمكن للذباب أن يقوم بجميع أنواع الأشياء المعقدة مثل المشي والطيران والتنقل، كما أن الذكور تغني للإناث» وأضاف: «إذا أردنا أن نفهم كيف يعمل الدماغ، فنحن بحاجة إلى فهم ميكانيكي لكيفية تناسب جميع الخلايا العصبية معاً والسماح لك بالتفكير».
وإحدى الأفكار التي ظهرت بالفعل من الدراسة هي أن أدمغتنا قد لا تكون فريدة كما نعتقد، وبالمقارنة مع خرائط الدماغ الجزئية السابقة، اكتشف الباحثون أوجه تشابه كبيرة في كيفية توصيل الخلايا العصبية معاً.
ويشير هذا إلى أن أدمغتنا قد لا تكون «بنية فريدة مثل ندفة الثلج» بل تتبع أنماطاً محددة.
ووجد الباحثون أن 0.5 في المئة فقط من الخلايا العصبية في الدماغ بها اختلافات تسببت في توصيلها بشكل مختلف. ويمكن أن تكون هذه الخلايا العصبية المشوهة مصدراً لفردية عقلنا أو اضطرابات الدماغ. ومع ذلك، فإن رؤية كيفية تناسب الخلايا العصبية معاً ليست سوى الجزء الأول من اللغز.
وإذا أراد العلماء البدء في محاكاة أدمغة ذبابة الفاكهة رقمياً، فنحن بحاجة أيضاً إلى معرفة ما تفعله جميع أجزاء الدماغ.
ويقول المؤلف المشارك الدكتور فيليب شليغل، من مختبر «MRC» لعلم الأحياء الجزيئي: «هذه المجموعة من البيانات تشبه إلى حد ما خرائط غوغل ولكنها مخصصة للأدمغة: الرسم التخطيطي للأسلاك الخام بين الخلايا العصبية يشبه معرفة الهياكل الموجودة في صور الأقمار الصناعية للأرض والتي تتوافق مع الشوارع والمباني.
وأضاف: «يشبه شرح الخلايا العصبية إضافة أسماء الشوارع والبلدات، وأوقات فتح الأعمال، وأرقام الهواتف، والمراجعات، وما إلى ذلك إلى الخريطة – فأنت بحاجة إلى كليهما لتكون مفيدة حقاً».
ويقول العلماء إنهم نجحوا بالفعل في تحديد أكثر من 8400 نوع فريد من الخلايا المسؤولة عن قدرات مثل البصر أو الحركات بما في ذلك 4581 نوعاً غير معروف سابقاً.
وتسمح لنا هذه الخلايا برؤية، بالتفصيل العصبي تلو العصبي، الهياكل المسؤولة عن مهارات الملاحة الطبيعية للذبابة، وقدرتها على التعرف على الأشكال، وحتى كيفية استماعها لأغاني بعضها البعض. وبما أن ذبابة الفاكهة حيوان شائع في مختبرات الأبحاث في جميع أنحاء العالم، يعتقد الباحثون أن هذه الرؤى ستؤدي إلى فهم أعمق للعمل الداخلي للدماغ.
ويقول الباحث المشارك ديفيد بوك، من جامعة فيرمونت: «سيؤدي هذا حتماً إلى فهم أعمق لكيفية معالجة الجهاز العصبي وتخزينه وتذكره للمعلومات.. أعتقد أن هذا النهج يشير إلى الطريق إلى الأمام لتحليل شبكات الدماغ الكاملة في المستقبل، في الذبابة وكذلك في الأنواع الأخرى».