أَين سكَنَ الساميِّون؟

إن الخلاف على موطن سكن الساميين لا يقل أهمية، عن الخلاف في اللغات التي تنتمي إلى الساميين، وقد اتسع الجدال في ذلك، ونتج منه آراءٌ عدّة، كل منها يرتكز على دليلٍ يراه أقربَ إلى الصواب، وأهم هذه الآراء ما يأتي: أولًا: بلاد اليمن، وعُدّت الموطن الأصلي للغات السامية وقال قائلوها إنَّ اللغات السامية إنما انطلقت من تلك المنطقة وانتشرت في المناطق الأخرى. ثانيًا: بلاد الحبشة في أفريقيا، وقيل إنها موطن أصل اللغات السامية، ومنها انتشرت إلى مناطق أخرى، مثل اليمن وشبه الجزيرة العربية. ثالثًا: بلاد ما بين النهرين (دجلة والفرات)، ويقول أصحاب هذا الرأي إن السامية انتشرت من العراق وأرمينيا إلى البقاع الأخرى. رابعًا: الحجاز ونجد، ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ هذه المنطقة منطقة الإشعاع السامي العالمي. خامسًا: شمال أفريقيا، ويرى أصحاب هذا الرأي أن أفريقيا هي الموطن الأصلي للسامية، وهم يتناغمون مع الرأي الذي يقول إنّ الحبشة هي الموطن الأصلي للسامية، غير أنهم يختلفون معهم في المكان المحدد في أفريقيا؛ فهم يذهبون إلى أن شمال أفريقيا، تحديدًا، هو الموطن الأصلي. سادسًا: سوريا وأرض كنعان: ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذه المنطقة هي الأصل الذي انبثقت منه السامية وانطلقت إلى بلاد الرافدين ومصر، ثم منهما إلى الجزيرة العربية واليمن ثم إلى أفريقيا.

بعد عرض هذه الآراء الخاصة بموطن الساميين، لا يمكنا استثناء العوامل الأخرى التي تجمع من ينتمون إلى اللغات السامية، ونهمل ذلك كله في تحديد الموطن الأصلي للساميين، فإن كنّا نؤمن بالأصل الواحد، والعرق الواحد، فيجب علينا أن نتبنى رأيًا يتفق مع تلك العوامل والمحدِّدات. فسكان اليمن، على سبيل المثال، ليسوا كسكّان الحبشة أو غيرها من الأماكن. وسكان أرض كنعان وبلاد الرافدين يختلفون عن سكان شمال أفريقيا، لذلك نرى أنّ هناك محددات أعمق من تلك التي ذهب إليها من انطلقوا في تحديد الموطن الأصلي للسامية، فخلال حقب التاريخ شهد العالم صراعات عديدة أدت إلى انهيارات كاملة في أسرٍ وقبائلَ وجماعاتٍ، كما نتج منها اندماجُ شعوبٍ في شعوبٍ، وهيمنةُ شعوبٍ على أخرى. وإن عوامل البيئة، نحو: انهيار سدِّ مأرب، وهجرة جماعات كاملة وتوزعها في مناطق أخرى، أدت إلى انتشار اللغة السامية والعرق السامي واندماجه في أَرومات وأجناس أخرى.

لكن ما نتبنّاه في هذا السياق أنّ السامية عِرقٌ قويٌّ امتلك من الحضارة ما يفوق غيرَه، ثمَّ انتشر بحثًا عن متطلبات الحياة في شبه الجزيرة العربية والحبشة وبلاد الشام والعراق على فترات من الزمن، كان فيها الساميون هم الأقوى، وهم مَنْ يفرض نفسه على الآخرين، وتسود لغته التي كانت كما يبدو أكثر تطورًا من غيرها. لذلك نجد أن السامية انتشرت في المناطق التي كانت تشهد صراعًا وتبدّلًا في الحضارات واندماجات عديدة في الشعوب والأقوام.

وعلى أي حال، فإننا لم نعثر على مصادرَ موثوقةٍ تجيبُ عن سؤالنا: من أين جاء الساميون قبل أن يستوطنوا المناطق الستَّ التي ذكرناها؟ لكن ما يمكننا الجزم به أن الجزيرة العربية هي المهد الأصلي للساميين، من دون تحديد موقعٍ بعينه؛ مثل جنوبها أو شمالها أو وسطها، على الرغم من وجود آراء أخرى ترجّح هجرة الساميين من مركز الجزيرة العربية، إلى أطرافها، وعدِّهِم الحبشة وشمال أفريقيا، مناطق محاذية تقع في أطراف الجزيرة العربية.