وسط النزف والقصف ورثاءات القتلى وآهات المصابين، أتذكر أنطون سعادة، المفكر والسياسى اللبنانى الشهير والأهم، الذى حلم بسوريا الكبرى التى تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، والذى غدر به الرئيس السوري حينئذ حسني الزعيم بعد أن فر إليه وأحسن استقباله، ليسلمه لمعارضيه وأعدائه فى الحكومة اللبنانية حينها، ليتم إعدامه بعد ذلك بيوم واحد فجر يوم ٨ يوليو/ تموز ١٩٤٩.
أتذكر سعادة كأنه يقتل مجددا، وهو يشاهد من قبره ما شاهدناه يوم الجمعة الماضى، ٢٠ سبتمبر، من تفجيرات البيجر بالجنوب اللبنانى، فى معركة إلكترونية متكاملة واختراق استخباراتى إسرائيلى مثير وملغز لايزال الجميع يبحث عن خيوطه! أثبتت التفوق التكنولوجى الإسرائيلى على السلاح الأيديولوجى العربى، والهوة الواسعة بينهما، كما ازداد الخوف- من قبل العديد من المراقبين- من أن تكون تلك فاتحة اجتياح إسرائيلى لبنانى، بعد اجتياح غزة لتتكرر المأساة!، راح ضحيته مئات من القتلى والمصابين.. ولايزال النزف والقصف مستمرا لا يتوقف.
وسط هذا النزف والقصف المستمر منذ شهور، إلى الجسد العربى الجريح، لم ينس السوريون مراراتهم وقتلاهم جراء تدخل حزب الله وميليشياته فى سوريا منذ الشهور الأولى عام ٢٠١١ وقتله للسوريين المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد، أظهر السوريون- أو كثير منهم- شماتتهم علنا فى قتلى حزب الله وهزيمته، والاستهتار الإسرائيلى به وقتله عبر أجهزة الاتصال التى يحملها عناصره وقياداته وكان يحملها السفير الإيرانى الذى فقد إحدى عينيه فى الغارة البيجرية أيضا، تحدث السوريون متشفين سعداء بقتل من قتلهم من قادة حزب الله، خاصة إبراهيم عقيل، قائد مجموعة الرضوان وغيره، الذى نشر حزب الله أثناء نعيه لهم سيرتهم الذاتية، مشيرا لدورهم فى الحرب الأهلية السورية.. ومذكرا للسوريين بمرارات أهليهم ومواطنيهم.. ومجددا أحزانهم.
أصر كثير من السوريين على تبرير هذا الفرح بالجرح اللبنانى، بالتذكير بقتلاهم وجرحاهم، اعتبروا العملية الإسرائيلية، والغارات المتتالية على الضاحية، رغم ما وقع فيها من مدنيين وأبرياء، لا علاقة لهم بحزب الله، انتقاما إلهيا لقتلاهم، وأخرجوا أرشيف الثورة السورية المريرة، مذكرين بفيديوهات قادة حزب الله القتلى، وتصريحات حسن نصر الله التى كانت ترفض النأى عن النفس، كما دعت الحكومة اللبنانية حينها، واقتحمت بنزوع طائفى الداخل السورى نصرة للطائفة ضد الأغلبية السنية، مما استجلب نصرات مضادة لهم من القاعدة وفروعها ثم داعش، فنشأت جبهة النصرة، ثم صعدت داعش واستمر السعار الطائفى يقتل الجميع، حتى قريب.
لم يختلف موقف بعض اللبنانيين والأغلبية السنية، وما يعرف بجبهة الموالاة عن الموقف السورى كثيرا، فبعيدا عن الشماتة طالب ويطالب باقى اللبنانيين، سنة وشيعة ودروزا أيضا، حزب الله بعدم توريط لبنان فى حرب خارجية مع إسرائيل سيدفع ثمنها لبنان كله، خاصة أن هذه الحرب تتم وفق الأجندة والأهداف الإيرانية، التى دفعت حماس لطوفانها الذى حصد الفلسطينيون وأهل غزة مراراته، ويحصد اللبنانيون أحزانه ومآسيه كذلك، نتيجة تدخل حزب الله فيه، بينما الرئيس الإيرانى، مسعود بزشكيان، يدعو الأمريكان للتفاوض ويصفهم بالإخوة.. وهو ما يجعل أحد المراقبين يصف الموقف الإيرانى بالانتهازية فى أبشع صورها، حيث تدفع حلفاؤها للحرب، بينما تذهب هى للتفاوض وجنى الأرباح، تجعل حلفاءها وشعوبهم أمام حروب مدمرة بينما تبحث هى عن السلام!.
كان موقف أنصار المقاومة مختلفا ورفض شماتة السوريين فيما وقع بالغزوة البيجرية، وأن عليهم أن يشعروا بلذة الانتقام لو كانوا هم المنتقمين، لكن القاتل عدو مشترك لهم ولقاتليهم معا، وهكذا تساءل البعض: هل يكفى شعار العداء لإسرائيل وصيحات المقاومة ضدها بالموت لأمريكا ولإسرائيل لرأب الصدع بين القاتل والقتيل.. وهو ما يرفضه السوريون.
ختاما نرى أن الزمن العربى الجريح فى أبشع صور قطيعته وانقسامه واستقطابه غير المسبوق، عداوات بين الشعوب وليست فقط خلافات بين الأنظمة كما كان فى السابق، وبين التيارات والأفكار، وبين الأقطار الشقيقة، تتطاير شظايا الكراهية عبر السوشيال الميديا، بل بين بلدين جارين وشقيقين، كانا شعبا واحدا وأرضا واحدة قبل أربعينيات القرن الماضى، مثل سوريا ولبنان، بل كانا معا قلب حلم كبير للوحدة فى سوريا الكبرى، حيث تجمعهم مع كل بلاد الشام القديمة، عند المفكر السورى القومى الراحل أنطون سعادة (١٩٠٤- ١٩٤٩).. هذا الشهيد القومى الذى غادر شابا، بعد أن أجاد سبع لغات، ودعى للقومية العربية السورية، وإحياء سوريا الكبرى ووحدتها.. نعم إنه يبكى فى قبره الآن مرتين، على عمق المرار والقطيعة بين السوريين واللبنانيين من جهة أو بين اللبنانيين أنفسهم.. أو عمقه من الفجوة التقنية الهائلة بيننا وبين الكيان الصهيونى.. وللمآسى التى تحل بوطنه الكبير.. لا شك يبكى سعادة مرتين، بل يقتل مرتين.. وربما يدعونا للمراجعة مرتين.. بل يدعو للجسد العربى الجريح أن يلتئم بشجاعة المراجعة والنقد الذاتى، تلك الفضيلة الغائبة عن كثير من قواه ونخبه.