هجمات البيجر واللاسلكي تخرق القانون الدولي الإنساني من الباب العريض

يبدو أنّ لعنة الإنفجارات والهَجمات غير المَسبوقة تُلاحق اللّبنانيين مُنذ سنواتٍ. فبعد أن صُنّف إنفجار مَرفأ بيروت، الذي حصل في الرابع من شهر آب من عام 2020، على أنّه “واحد من الأعنَف والأكبر بالتاريخ غير النَّووي”، جاء انفجار أجهزَة الإتصالات من بيجرز ولاسلكي ليُعتبر الأول من نوعه في تاريخ النزاعات المُسلّحة؛ وليُؤكّد أنّ ما كان خيالًا علميًا في الأفلام السينمائية بات واقعّا على الأراضي اللبنانية. ولكن ورغم أنّ هذه الإنفجارات، التي هزّت العَاصمة اللبنانية خِلال يومين مُتتاليين، أسفرت عن سقوط العشرات من الضحايا والآلاف من الجَرحى، أثارت نقاشًا حادًّا ليس فقط بين خبراء التكنولوجيا والاتصالات والسياسة وإنما على وجه الخصوص بين الخُبراء والباحثين القانونيين. ففي حين كان البعض يُناقش مَدى انتهاك هَاتين العمَليتين لقواعد القانون الدولي الإنساني، كان البعض الآخر يتمسّك بحُجة عدم انطباق القانون الدولي عُمومًا والقانون الدولي الإنساني خصوصًا على هذا النوع من العمليات غير التقليدية، ذلك أن هذا القانون الأخير يَنطبق على النزاعات المُسلّحة فقط أي تلك التي تقوم على استخدام القوة المُسلّحة التقليدية. وأضافوا أن إخضاع أي هَجمات غير تقليدية للنُّصوص القانونية الدُّولية القائمة يتطلّب تعديل لهذه النُّصوص أو إلى مُعاهدةٍ دوليةٍ جديدةٍ.

خضوع هجمات البيجرز واللاسلكي للقانون الدولي الإنساني

في الحقيقة إنّ قواعد القانون الدولي الإنساني، التي وُجدت لتنظيم النّزاعات المُسلّحة الدُولية وغير الدُولية سَعيًا للحد من آثارها من خلال حماية الأشخاص الذين لا يشاركون أو توقّفوا عن المشاركة في القتال ومن خلال وضع قيودعلى وسائل الحرب وأساليبها، تنطبق على النّزاعات المسلحة التقليدية وغير التقليدية، أي تَخضع لها كافّة الهَجمات وعلى رَأسها تلك التي تحصُل عبر الفضاء السّيبراني. فعبارة مُسلّحة لا تَسمح على الإطلاق باستبعاد العَمليات السّيبرانية، ذلك أنّه تمّ تبنّي تعريفات واسِعة لمَفهوم السّلاح على المستوى الدولي. إذ اعتبرت اللّجنة الدولية  للصَليب الأحمر ، والمعروفة بأنّها حارس القانون الدولي الإنساني، بأنّ الأسلحة هي وَسيلة لإرتكاب أعمال عُنف ضدّ العّناصر البشرية والمادية. كما لم تتوانَ اللجنة عينها عن تصنيف الوسائل السيبرانية على أنها أسلحة، وذكرتها من ضِمن لائحة الأسلحة، في إعلانها الخاص بالأسلحة المُقدّم للأمم المتحدة عام 2017. وعادت وأكّدت اللجنة مرارًا على أنّ القانون الدولي الإنساني يحدّ من العمليات السيبرانية أثناء النزاعات المسلحة تماماً كما يحدّ من استخدام أي أسلحة ووسائل وأساليب حرب أخرى أثناء نزاع مسلح، جديدة كانت أم قديمة. وبدوره اعتبر دليل القانون الدولي المُطبّق في النزاعات المُسلحة الجوّية والصّاروخية، أنّ الوسائل المُستخدمة في النزاعات تَشمل الأنظمة غير المادية أو غير الحَركية، أجهزة الكمبيوتر وكافّة المَعدّات والشّبكات المُرتبطة بها، كما في حالة النّزاعات الإلكترونية والهَجمات السّيبرانية. إنّ السّمة الرئيسية للسّلاح، بحسب الدليل، هي القُدرة على التسبُّب في إصابة أو وَفاة الأشخاص أو إتلاف أو تَدمير الأشياء. وقد أيّد العديد من فقهاء القانون الدولي هذا الاتّجاه، حين اعتبروا أنّ الأسلحة تتَضمّن أي سِلاح أو ذَخيرة أو غيرها من الأجهزة أو الآليات، التي تَهدف إلى تَدمير أو تَعطيل أو إصَابة الأفراد أو المَعدّات أو المُمتلكات العائِدة للعَدو. والقاسِم المُشترك بين كل هذه التعاريف هو الآثار العَنيفة التي تَنتج عن استخدامه. فالسّلاح يُعتبر كذلك نِسبةً لآثاره، وليس لنَوعه أو لِطَريقة عَمله أو الغَرض من استِخدامه. وتأكيدًا على ذلك، اعتبرت محكمة العدل الدولية في الفتوى الصادرة عام 1996 والمُتعلقة بِمشروعية التهديد بالأسلحة النووية أو استِخدامها، أنّ الهجمات الكيمائية من الوسائل غير المشروعة في النزاعات، رغم أنّها لا تتوافق في طبيعتها مع الأسلحة التقليدية، في إشارة إلى أنّ الدولدوّنت قواعد القانون الدولي الإنساني بطرقٍ تجعلها تنطبق على كافة أشكال النّزاعات وكافّة أنواع الأسلِحة، بما فيها الأشكال والأنواع المُستقبلية. وما يُؤكّد صحة هذا الإتّجاه، قَرار مَجلس الأمن الدولي الذي أعطى الولايات المتحدة الأميركية الحق في الدّفاع عن نفسِها، ردًا على هجمات 11 أيلول 2001 التي استهدفتها، رغم أنّ الأسلحة المُستخدمة في هذه الهجمات كانت عِبارة عن طائراتٍ مَدنيةٍ تمّ اختطافُها.

وبِدورها باتَت الدول تُؤكّد، بصورةٍ صريحةٍ، على أنّ الوسائل الإلكترُونية تُشكّل أسلحةً. إذ أثناء المُؤتمر الدولي للصليب الأحمر لعام 2003، طالبت الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف بأن تَخضع جَميع الأسلحة الجَديدة وَوسائل وأسَاليب الحرب الحديثة “لإستعراضٍ دقيقٍ ومُتعدّد التّخصصات” من أجل ضَمان عَدمتخطّي تطوُّر التكنولوجيا الحِماية القانونية المَكفولة. كما نبّهت روسيا إلى أنّ الآثار المُدمِّرة للأسلِحة الإلكترُونية يُمكن أن تُشبِه تِلك النّاتجة عن أسلِحة الدَمار الشّامل. وبِدورها، أكّدت المملكة المُتحدة على أنّ الوَسائل المُستخدَمة في الفضاء الإلكترُوني تُعتَبر سِلاحًا عَسكريًا، يتمّ استِعماله من قِبل الجهات الدُّوليةوغير الدُّولية. كذلك، لم تتوانَ الولايات المتحدة الأميركية عَن اعتبار الوسائل السِّيبرانية أسلحةً، حتى أنّه يُنظر إليها أحيانًا على أنّها “أسلحة مِثالية بِسبب خَصائصها (مجهولية المصدر، السرعة، السرية).

الإنتهاك الفاضح للقانون الدولي الإنساني

أمَّا عَن الإدّعاء بأنّ هَجمات البيجر وأجهزة اللاسلكي مَشروعة لا تُخالف مَبادىء وقَواعد القانُون الدولي الإنساني، فإنّ ذلك أبعَد ما يَكون عَن الحَقيقة. ففِي هذا الإطار، لا بُدّ من التذكير بأنّه وفقًا لقَواعد القانون الدُّولي الإنساني، إنّ حَق الأطراف المٌشاركين في النّزاعات المُسلّحة في اختيار أسَاليب وَوسائل القِتال ليسَ حقًا مُطلقا، بل هُناك قُيود تَنطبق على نَوع الأسلحة المُستخدمة وطَريقة استخدامِها والسُّلوك العام لجميع الأشخاص المُنخرِطين في النّزاع المُسلّح. بالإيضافة إلى ذلك، يُحظّر القانون الدُّولي الإنسانياستخدام وَسائل وأسَاليب الحَرب التي قد تُسبِّب بِطبيعتها إصَابات مُفرطة أو مُعاناة لا ضَرورة لها. ولا يُمكن أن نتغاضَى عن المادة 7 (2) من البروتوكول الثاني المُعدل لإتفاقية الأسلِحة التقليدية المُعينة، التي أُضيفت إلى القانون الدُّولي المُتعلق باستخدام الأسلحة التقليدية في عام 1996، والمُوافَق عليها من قبل كل من إسرائيل ولبنان، والتي حظّرت صَراحةً استخدام الأفخَاخ المُتفجّرة؛ هذه الأفخاخ التي استخدمت لشن الهجمات المذكورة.

كما أنّه، عِند شنّ أي هُجوم في إطارِ نزاع مُسلَّحٍ، يَجب الأخذ بالاعتِبار المَبادىء الأسَاسية التي يَقوم عليها القانون الدُّولي الإنساني، وهي مبدأ التّمييز والتناسُب والإحتياط. يَقضي مبدأ التّمييز من جميع أطراف النزاع المسلح وُجوب التمييز بَين المَدنيين والأعيَان المَدنية مِن جهة، والمُحاربين والأهداف العَسكرية من جهةٍ أخرى، ووُجوب تَوجيه الهَجمات ضدّ المُحاربين والأهداف العَسكرية حَصرًا.ويَقضي مبدأ التناسُب أنّه عند الهُجوم على هدفٍ عسكريٍ، يجب أن لا تكون الخَسائر العَرضية فيأرواح المَدنيّين والإصَابات بَينهم والأضرار التي تَطال الأعيان المَدنية أو مَجموعة من هذه الخَسائر والأضرار مُفرطة مُقارنةً بالمِيزة العَسكرية المَلموسة والمُباشَرة المُتوقّعة من هَذا الهُجوم. ويَتطلّب مبدأ الإحتياط من أطراف النّزاع المُسلَّح أن تتوخّى الحذر بإستمرارٍ من أجل تَجنُّب إلحاق الأضرار بالسُّكان والأفراد المَدنيّين والأعيان المَدنية في أثناء سَير العمليات العَسكرية. في الواقع، إذا ما نَظرنا إلى الهَجمات المَذكورة أعلاه، يَتبين أنّها استهدَفت الآلاف من عناصر حزب الله، ولكنّ السؤال الذي يُطرح هل كل العناصر مُقاتلين؟ ألا يُمكن أن يَكون من بينهم مُستخدمين إداريين وعَاملين في الحقل الطّبي وفي غيره من الحقول المَدنية. وحتّى لو افترَضنا أنّ العناصر المُستهدفَة جميعها تُشارك في العمليات القتالية، فإن الإنتهاك حَصل بمُجرّد أن قرّر مُنفذّي الهجوم القيام به دون أن يكون بامكانهم التأكُّد بدقة من مَوقع أو مكان تواجد المُستهدفين. هل يُعقل أنّ مَن قام بعمليةٍ مُرعِبة غَير مَسبوقة مِن هذا النوع لم يكُن على علم بأن الأفراد الذين يَحملون الأجهزة سَيتواجدون بين مَدنيّين، وأنّهم وَضعُوا حَياة الآلاف بخطر وأن الاستهداف سَيكون في مواقعٍ مَدنية غير عَسكرية؟ ممّا يعني ومن دون أدنى شك أنّ هذه الهجمات نُفّذت بشكلٍ عشوائيٍ،دون اتخاذ أي تَدابير إحتياطية تَسمح بتفادي أو بتقليل الأضرار التي ستلحق بالمدنيين أي أولئك الذي لا يشاركون في العمليات القتالية، ضاربةَ عرض الحائط مبدأي التمييز والاحتياط. كما أن مبدا التناسب لم يسلم من الانتهاك، ذلك أنّه من الواضح أنّ القوة  المستخدمة، والتي أسفرت عن الخسائر البشرية والإصابات المَهولة، مُفرطة مقارنة بالميزة العسكرية الملموسة والمباشرة. إذ إنّ مُعظم المُستهدَفين كانوا في مَواقع مَدنية لا يقُومون بأية مُهمّة عَسكرية، وبالتالي لم يُشكلوا تهديدًا مُمِيتا وَشيكًا لأيِ شخصٍ آخر.

في النهاية، لا يَسعُنا سِوى إعَادة التأكيد على مَا صَرّحت به مَجموعة من خُبراء حُقوق الإنسَان بالأمم المتحدة بأنّ إنفجارات البيجر واللاسلكي التي استهدفت الآلاف مِن اللبنانيين تُشكّل انتهاكات “مُرعبة” للقانون الدولي. وهذه الهجمات وإن دلّت على شيىء فهي تدُل على خُطورة المَرحلة القادِمة وتؤكّد على أنّالمُجتمع الدولي على أبواب نِزاعاتٍ غَير مَسبوقةٍ، حيث سَيتمّ تخطّي الخُطوط الحَمراء التي رَسمها القانون الدُّولي الإنساني. ولكن على الدول أن تُدرك أنّه، ومَهما عَظُم شأنها، لن يَكون ذلك لِصالحها ولِصالح البشرية جَمعاء. وما هَجمات البِيجر والأجهزة اللاسلكية سوى عَينة صَغيرة مِمّا يُمكن أن يحصُل.