تعج صفحات التاريخ البشري بمحاولات الاغتيال السياسي لقادة أو قيادات سياسية او عسكرية او حتى فكرية، ويبدو ان نطاق الاغتيال بقي في طابعه العام نطاقا فرديا، لكن التكنولوجيا مثلما وسعت خلال رحلتها التاريخية مساحة ميادين المعارك من مساحة ضيقة للغاية بين حملة السيوف الى مسافة كيلو مترات بين حملة البنادق وصولا الى عبور القارات من الاقصى الى الاقصى مع الصواريخ عابرة القارات، فانها الآن فتحت المجال لاغتيال سياسي جماعي، ولعل مثاله الحي ما جرى في لبنان من محاولة اسرائيلية لاغتيال تنظيم حزب الله عبر تفخيخه ، فالحديث عن اصابات متباينة لأكثر من 3 آلاف عنصر اغلبهم من هذا التنظيم أو من عائلاتهم او موظفي هذا التنظيم وكوادره ، هو سابقة تاريخية لم نعهدها، فهذه ليست معركة حربية بين جيوش ، ولا هي قنبلة نووية تكتيكية، ولا مؤامرة انقلابية ، بل اغتيال سياسي بالتفخيخ بتكنولوجيا مدنية متداولة.
الجانب الآخر، ان التوظيف التكنولوجي للاغتيال السياسي تبدو فيه اسرائيل متقدمة بشكل لافت قياسا بالردود من خصومها بخاصة من محور المقاومة، ولا أنفي ان المحور يحقق بعض النجاح في جوانب معينة ، لكن درجة وضوح النجاح في العمليات الاسرائيلية أكثر بدون اي شك، سواء باغتيال القادة او الرموز السياسية او العلماء او ضرب اهداف معينة او الوصول لوثائق واسرار….وسواء كان ذلك نتيجة محدودية نتائج عمليات خصوم اسرائيل فعليا، او لقدرة اسرائيل على التعتيم على خسائرها.
الجانب الثالث يشير الى ان درجة الانغماس الاسرائيلي في دهاليز شركات التكنولوجيا العالمية الحديثة تفوق بشكل واضح درجة انغماس خصومها، ولعل الملابسات التي تم الكشف عنها حتى الآن –على محدوديتها- عن التعاقد مع الشركة التايوانية”غولد أبولو” يثير اسئلة كثيرة، فهل الشركات التايوانية بعيدة عن الأنامل الامريكية والصهيونية؟ وهل تايوان دولة آمنة للتعامل معها في مثل هذا الميدان الحساس جدا ؟، فتايوان هي نسخة مكررة من اسرائيل..وحتى لو افترضنا صحة زعم الشركة التايوانية بأن البيجر ( Pager) المستخدم من حزب الله هو من بودابست ومن شركة تستخدم شعار غولد أبولو ، فان السؤال المهم هو: هل يمكن توزيع جهاز مهم للغاية كالبيجر لاعضاء تنظيم دون مروره على لجان فنية ومختبرات ؟ وهل فعلا ان الاجهزة دُس فيها بضعة غرامات من المواد المتفجرة؟ أم ان الامر مرتبط برسائل نصية تقود الى ارتفاع درجة الحرارة لبطارية الجهاز فتنفجر ؟ ثم إذا كان عقد الصفقة قد تم قبل خمسة أشهر كما يجري تداوله فهل كل هذا التغيير في الجهاز وتلغيمه تم خلال هذه الشهور الخمسة(اي في حمى المعركة مع اسرائيل مما يجعل الحذر يتضاعف آلاف المرات)؟ ثم إن اية مراجعة لأغلب العمليات الاسرائيلية التقنية في مجال الاغتيال تمت بطرق تقع ضمن هذه الدائرة، مما يستدعي التنبه للأمر أكثر فأكثر…
كل هذه الاسئلة تجعلني أؤكد على ان هناك ثغرة أمنية أكبر من أن يتم غض الطرف عنها تحت اية ذريعة من ناحية أولى ، ومن ناحية ثانية ، فان اسرائيل لن تتورع عن استخدام اية وسيلة ، وقد تلجأ لاحقا للمواد الكيماوية والجرثومية في الهواء والمياه والمواد الغذائية والاجهزة المختلفة، ولن اتفاجأ لو ان اسرائيل حقنت العشرة آلاف معتقل فلسطيني بفيروسات معدية…
واتوقف قليلا عند بيان حزب الله حول العملية، فقد اكد البيان على جانبين هما :
أ- ان العملية الاسرائيلية لن تغير من موقف المقاومة تجاه المساندة لغزة
ب- أن الرد على العملية سيكون منفصلا عن معركة غزة وإن كان في سياقها.
ذلك يعني ان الحزب يبطل اية مراهنة على ان هذه العملية ستلجم الحزب عن دوره في الطوفان ولو في حدود معينة
من جانب آخر، فقد شاع في فترة الستينات من القرن الماضي تصور للبنان بأنه” وكر جواسيس” لكل الدول، ولن تكون الولايات المتحدة بعيدة عن هذا الوكر، وهنا نتساءل : من هي الجهات التي تستخدم نفس هذا الجهاز التقني للاتصال في لبنان غير حزب الله؟ فهل اصيب من هذه الجهات أحد؟ فإذا لم يصب من هذه الجهات آحد ،فهل يعد هذا دليلا على تلقي هذه الجهات تحذيرا مسبقا من جهات معينة؟
وهل فعلا أن العلمية كانت تحضيرا لبدء هجوم اسرائيلي شامل على لبنان؟اي ان هذه العملية كانت لخلق فوضى داخل صفوف المقاومة في لبنان يتم من خلالها الشروع بهجوم بري على الجنوب اللبناني واستغلال حالة الفوضى التي تكون سائدة؟ ولكن لماذا اسرعت اسرائيل بالعملية؟ هل صحيح انها استشعرت ان المقاومة على وشك كشف “تفخيخ ” الحزب كله فسارعت بالعملية؟
اعتقد ان هذه العملية قد ادخلت الصراع في مستوى جديد من العراك التقني على غرار النقلة التي احدثتها المسيرات والأنفاق ، وهو ما يعني اتساع مساحة الصراع جغرافيا وتقنيا ، وإلا فقد يرتد الامر لصراع داخل الاطراف ذاتها في اسرائيل ومحور المقاومة ذاته…لعلي اجد في خطاب قائد المقاومة غدا بعضا من الإجابات على تساؤلاتي..