تبدأ الحكاية باختفاء صغير لا يلحظ، باحتجاب غير مقصود عن شيء ما، لكنه سرعان ما يتحول إلى فراغ مهيب، إلى مساحة شاسعة يصعب التعامل معها، لتتسع مع مرور الوقت، وتكبر وتكبر، ثم تتحول إلى واقع ملموس لا يمكن تجاوزه بسهولة، واقع يتمكن منّا وينخرنا من الداخل بعمق، ويحيل حضورنا إلى غياب لا مفر منه.
القاعدة في الغياب، إن طالت مدّته تتغير معادلة الحياة بشكل عكسي في بعض الأحيان، فيسكن البيت الغبار، وتغدو الأشياء الأكثر لمعانًا باهتة ومعدومة البريق والألق، مثل سماء بلا نجوم، مثل كتلة زرقاء من اللاشيء معلقة في فراغ مهول، وذلك لأن الغياب الطويل يأكل الروح والجسد معًا، يحيل الحياة إلى حالة من الخراب الداخلي والوحشة، يعقّد إمكانية الرجوع إلى العهد السابق بسرعة، يقلب الموازين رأسًا على عقب، بطريقة تتجلى معها القوة في الضعف، ومن ثم يُشرق الضعف فينا كشمس صيفية حارقة.
إن غبت طويلًا عن نص تكتبه، ستحتاج وقتًا لتتعرف عليه مجددًا، ستجد أن غيابك غيّر الأشياء والمعطيات وربما الأحرف والكلمات، فيبدو النص غريبًا عابثًا، ينخره الغياب ويأكل فيه بصمت نصي مجنون. قد تجد أن الكلمات لم تعد تلك الكلمات، ولا الأفكار كذلك، شيء ما له مذاق السحر غيرهما إلى الأبد. أن تغيب عن زهرة أنت ساقيها، هذا يعني بداية موسم الذبول، بداية تداعي البتلات الملونة وسقوطها بتلة بتلة على الأرض المغطاة برائحة الغياب المرّ.
بعض الغياب جميل وحسن، ولكن الكثير منه مضر ولا فائدة منه. أحيانًا قد نجد أنفسنا مضطرين لخوض هذه التجربة، ذلك أنه لا حياة بدون غياب، ولكن قبل أن نغيب يجب أن نختار بدقة ما نغيب عنه ولأجله، حتى لا نكون وليمة سائغة للغياب.