تجنيد الأطفال إشكالية دولية مُتفاقمة في عصرنا

الطفل، ونقصد به كل من هو دون الخامسة عشرة من عمره، حقيقةً كان معرضَ انتهاكاتٍ صارخة النِّطاقِ في العصور القديمة، ومع تطوُّر الأزمنة والعصور ووقوع الحروب ومشاهدة ومعاصرة آلامها بشكل عام وتجاه الأطفال بشكلٍ خاص، شاهدنا ارتقاءً وتطوّرًا ملحوظًا في مجال حماية حقوق الإنسان بإطارها العام وحقوق الطِّفل بشكلٍ خاص، وتحديدًا في المجتمعات الإسلاميَّة.
لكن تجدر الإشارة أنّ مشاركة الطِّفل في الأعمال العدائيَّة أمرٌ يَلفتُ انتباه وقلق الكثيرين، وهذا ما يدفعنا في مقالنا الحالي إلى تسليط الضوء حول هذه الظاهرة وأسبابها وخطورتها على الصَّعيد المحليِّ والدُّولي، وكيفيَّة التَّعامل معها على صعيد القانون الدُّوليّ.
أولاً: أسباب ظاهرة تجنيد الأطفال:
لإدراك أبعاد أي إشكاليّة أو ظاهرة لابد من البحث عن أسباب نشأتها وظهورها، فعندما نتكلَّم عن تجنيد الأطفال نذكر أنَّ من أبرز أسباب هذه الظاهرة على الصعيد الاجتماعي: الفقر والفراغ الَّذي يعاني منه الأطفال وذووهم، وتحديدًا في البلدان النائية والفقيرة وخاصَّةً أنَّ الأطفال يتقاضون أجورًا ورواتِب ماليَّة مقابل تجنيدهم وقيامهم بأعمالٍ قتاليَّةٍ.
وأيضاً على صعيد الجانب النَّفسي والعَقائدي فإنَّ الطفلَ قد يميلُ إلى التجنيد على اعتبار أنّ شخصيته تكتمل –من وجهة نظره أو من وجهة نظر والده- بحملِ السِّلاح وإثبات الرُّجولة والانتساب إلى فصيلٍ مقاتل، وأيضاً وفي كثير من الأحيان تدخل العقيدة والمذهب كسببٍ في تجنيد الأطفال أو التَّحفيز على تجنيدهم عندما يتعلق الأمرُ بالدِّفاع عن ذلك المذهب أو العقيدة.
وهنا نشير إلى إحصائياتٍ صدرت عن منظَّمة العمل الدُّوليَّة (ILO) في عام 2002 كشفت أنَّ نحو (300) ألف طفل على الأقل يعملون كجنود في المنظَّمات والجماعات المسلَّحة، ويشاركون في العمليَّات القتاليَّة الدَّائرة في أكثر من (41) دولة في العالم، وأنَّ الكثير من هؤلاء الأطفال دون سنِّ العاشرة، وأنَّ ما يقرب من (500) ألف طفل يقومون بأنشطةٍ مختلفة في ميليشياتٍ عسكريَّة ومنظَّماتٍ شبه عسكريَّة ليصبح عدد الأطفال الذين يعملون في المنظمات العسكرية بصورة عامة (800) ألف طفل وهو رقم مخيف، وبخاصةٍ أنّ هذه الإحصائيَّة قبل الحروب الَّتي شهدها الشَّرق الأوسط.

ثانياً: خطورة ظاهرة تجنيد الأطفال:
مما لا شك فيه أنَّ ظاهرة تجنيد الأطفال تحمل العديدَ من المخاطرِ على مختلف الأصعدة، على صعيد الطِّفل ذاتِه وعلى صعيد أسرته وعلى صعيد مجتمعِهِ وعلى صعيد العالم بأسره.
فعلى صعيد الطفل ذاتِه نشيرُ أنَّ أغلب حالاتِ التَّجنيد تكون نتيجةً للتغرير بالطفل ودفعه للانتساب إلى فصائلَ مقاتلة، إما للدِّفاع عن مذهب أو عقيدة أو ليكون مُرتزقًا مقابل المال لأسرته وأهله، ولكن الحرب مهما طالت ستنتهي وسنكون أمام طفلٍ بحالة نفسيَّة صعبةٍ للغاية، والعنف أداته والقوّة سلاحه وفكره غير تربويّ وغير أخلاقي، وهذا ما يمكن أن أقول إنَّه من أشدِّ الخطوراتِ الَّتي تنتج عن ظاهرة التجنيد.
وعلى صعيد المجتمع نتكلّم عن التَّحدّي الكبير الذي ستشهده الدَّولة بكيفيَّة التَّعاطي مع مثل هؤلاء الأطفال، وصعوبة إعادة دمجهم في الحياة المدنيَّة الأساسيَّة أو صعوبةِ إعادتِهم إلى المقاعد الدِّراسيَّة، مما يجعلنا نقول إنّ مثل هؤلاء سيكونون قنبلةً موقوتةً في مجتمعاتهم في حال لم تستطعْ هذه المجتمعاتُ أو لم تنجح في ضبط ملفِّهم.
على الصَّعيد العالميِّ نقول إنّ العالم مُدركٌ لخطورة هذه الظَّاهرة وبخاصِّةٍ عندما نكون أمام انتقال الأطفال المقاتلين عبر القارَّات والدُّول، ولعلَّ ما حصل في تنظيم داعش يُثبت خطورة هذه الظاهرة على الصَّعيد الدُّولي، فلاحظنا أطفالًا -في فترة ازدهار هذه التَّنظيم- يقطعون رؤوس الرَّهائن من مختلف الجنسيَّات، وشاهدنا أطفالًا يطلقون النَّار على رأس السُّجناء… وهذه رسالةٌ خطيرة كان قادة هذا التَّنظيم يريدون إيصالها للعالم أجمع، ومفادها أنّ الأطفال هم أداة هامَّة يلجأون لها لإرهاب العالم.
ثالثاً: معالجة الظَّاهرة على الصَّعيد الدُّوليّ:
تُعدُّ حمايةُ الأطفال من الموضوعاتَ الرئيسةِ في القانون الدُّولي بفروعه المختلفة، إذ توجد العديد من الاتفاقيَّات الدُّوليَّة الَّتي تعنى بحماية الأطفال بشكلٍ عام، وحمايتِهِ من التَّجنيد بشكلٍ خاص، إذ قررت معظم هذه الاتفاقيَّات اعتبارَ تجنيد الأطفال واستخدامهم في النِّزاعات المسلَّحة من الجرائم الدُّوليَّة، وتوفِّر هذه المجموعة من النُّصوص القانونيَّة الدُّوليَّة الَّتي تشمل اتفاقيَّاتِ جنيف والبروتوكولين الملحقين بها، الحماية الخاصَّة للأطفال أثناء النِّزاعات المسلَّحة وحظر اشتراكهم في الأعمال الحربيَّة، وهي قواعد ملزِمَةٌ لكلِّ من الدُّول والجماعات المسلَّحة.
ونذكر أيضاً اتفاقيَّة حقوق الطِّفل لعام 1989م، والَّتي جاءت للدِّفاع ولحمايةِ حقوق الطِّفل بشكلٍ عام، والمادة 38 عالجت ظاهرة التَّجنيد تحديدًا.
وتبنَّى المجتمعُ الدُّوليُّ في عام 2000م البروتوكولَ الاختياريَّ الثَّاني الملحق باتفاقيَّةِ حقوقِ الطِّفل، والمتعلِّق باشتراك الأطفال في النِّزاعات المسلَّحة كردِّ فعلٍ واضحٍ للقلقِ الَّذي أثارته مسألةُ مشاركة الأطفال في النِّزاعات المسلَّحة الَّتي انتشرت في كثيرٍ من النِّزاعاتِ العسكريَّة.
وأيضًا تصدَّى القضاءُ الجنائيُّ الدُّوليُّ المؤقَّت لجريمة تجنيد الأطفال، حيث قام مجلس الأمن بإنشاء محكمتين دوليَّتين جنائيَّتين، الأولى خاصّة بمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لقواعد القانون الدُّوليّ الإنسانيّ في يوغسلافيا، ومنها جريمة تجنيد الأطفال 1993. والثَّانية خاصّة بمحاكمة الأشخاص المتَّهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعيَّة والانتهاكات الخطيرة للقانون الدُّوليّ الإنسانيِّ الَّتي وقَعَت في رواندا، ومنها أيضا جريمة تجنيد الأطفال.

الوضع الرَّاهن:
يمكننا القول إنَّه لا يكاد يوجد عمل عسكريٌّ يخلو من ظاهرة تجنيدِ واستخدامِ الأطفالِ في الأعمال العسكريَّة خصوصًا في السَّنوات العشر الأخيرة بعد الحراك الَّذي حلَّ في الوطن العربي بمختلف الدُّول. فتنظيم داعش، الَّذي ظهر بعد الحرب في سوريا والعراق، لم يعد يُخفِي مايقوم به من استقطابِ الأطفال من سن السابعة وتغذيتهم فكريًّا وعقائديًّا وعسكريًّا، حتى أحرقَ مظاهرَ الطُّفولة في مخيِّلة المتابعين الصامتين. وأيضاً مجموعات الحوثيِّ في اليمن لم يعد للطُّفولة معنى عندها. وكذلك بعض الفصائل المعارضة للنِّظام السُّوري اعتمدت بشكلٍ أساسيٍّ في تكوينها على فئة الأطفال وحتَّى النِّظام نفسه في ظلِّ عمليَّاتِهِ العسكريَّة وبعد الانشقاقات المتتالية في صفوفه، وليبيا، جهرًا وعلانيّة، بتنا نرى سواعد أطفالٍ ناعمةٍ تحمل أسلحةً أثقلَ من أوزانِهِم.
إننا ومع وصولنا إلى أيلول 2024م قد شهدنا انتهاكاتٍ صارخةً في تجنيد الأطفال في معظم الحروب الَّتي شهدها العالم، فقوات حفتر اللِّيبية شهدّت تجنيدًا للأطفال في صفوفها، والحرب السُّورية شهدت تجنيدًا للأطفال من مختلفِ أطرافها، وكذلك في اليمن والعراق والسُّودان، وأيضًا في الحرب الحاليَّة بين روسيا وأوكرانيا، حيثُ تُشير تقاريرٌ إلى تجنيدِ روسيا لبعض الأطفالِ من أفريقيا في حربها ضد أوكرانيا.
فنحن في حقيقة الأمر أمام جمود في تطبيق تشريعات القانونِ الدُّوليّ، وجمود في صلاحيَّاتِ محكمة الجنايات الدُّوليَّة، فمن وجهة نظري من قام بتجنيد الأطفال في مختلف النِّزاعات الَّتي شهدها العالم في الفترة الأخيرة لا تعجزُ المحاكم المعنيّة عن معرفة المسؤول عن هذه الجريمة، وأن المدَّعي العام، وبموجب الصلاحيات الممنوحة له، له أن يتحرَّك من تلقاءِ نفسه، وخاصَّة أن تقارير المنظَّمات الدُّوليَّة وأبرزها هيومن رايتس ووتش قد وثَّقت العشرات بل المئات من الانتهاكات بهذا الخصوص.
لكنّنا نقف أمام ضميرٍ عالميٍّ جامدٍ في محاسبة المسؤولين عن تجنيد الأطفال وتوريط المجتمعات ككل في نتائج هذه الظاهرة، لسبب قد يكون هو أصل المشكلة “السياسة”.