إن دراسة التاريخ اللغوي لأي لغة يجب أن يمرّ من بوابة فقه اللغة (philology) أيّ؛ العلم المختص بدراسة اللغات من منظور تاريخي، وهو مصطلح جامع لعدد من التعريفات المترجمة، نحو: علم اللغة، واللسانيات. كما يتناول هذا العلم اللغاتِ وفق توزيعاتها الجغرافيّة والسكانيّة، سواءٌ أبقيت إلى يومنا هذا أم اندثرت وتركت أثرًا يذكرنا بها، مثل؛ نقوش ودلائل وكتابات وخطوط.
ومن البديهي حينما نتناول التاريخ اللغوي، أن نبدأ بالإنسان الأول، نبدأ بآدم – عليه السلام – الذي كان يتكلّم لغة معينة، تناقلها بنوه جيلًا بعد جيل. ولكن جوهر الخلاف والتفرع اللغوي بدأ حينما بدأ الجنس البشري بالانتشار في الأرض، ومع هذا الانتشار، ومع تطور المجموعات البشرية، أخذت كل مجموعة تكوِّن واقعًا فكريًا ومعيشيًا واجتماعيًا خاصًّا بها، الأمر الذي يستلزم تطورًا في اللغة؛ كونها وعاء التواصل بين الأفراد، ووسيلتهم في التعبير عن حاجاتهم وأغراضهم.
وأرى أنّ باب (الفيلولوجيا) هو المدخل الانسب لدراسة التاريخ اللغوي؛ كونه علمًا يبحث في طبيعة اللغة؛ أَهِيَ إِلهية أَم وضعية؟ ثم يبحث في اللغات القديمة التي نطق بها المغرقون في القدم، والموغلون في التاريخ وعصوره الأولى، ثُمَّ إنَّ هذا العلم يرتكز على البحث العلمي الدقيق الذي يوصلنا إلى الحقائق عبر الأدلة التي كشفتها الموروثات الأدبية والعلمية والآثار والمخطوطات والمكتشفات، ومِنْ ثَمَّ فإن هذا العلم يبحث في الخصائص العامة للغات ويوازن بينها بطريقة منهجية محكمة، بعيدة عن الخرافات والأساطير، توصلنا إلى معارف جديدة ودقيقة نوعًا ما.
الفصائل اللغوية الآسيوية
يندرج التاريخ اللغوي في فلسطين ضمن تاريخ الفصائل اللغوية الآسيوية، وتحديدًا السامية منها؛ ووفق الإصحاح العاشر من سفر التكوين الذي ورد فيه ما يعرف بـ “جدول الشعوب” فقد قُسّمت القبائل الآسيوية والشعوب التي انبثقت منها، إلى مجموعات ثلاث، رُبِطتْ بأولاد نوح عليه السلام: سام وحام ويافث، ولم يخضع هذا التقسيم إلى اللغة منطلقًا له، بل إلى علاقات أشد تشابكًا وأوسع، منها علاقات سياسية واجتماعية وجغرافية، ومنها ما ارتبط بطبائع وعادات وسلوكات.
اللغات السامية
إن اللغات السامية هي اللغات التي نسبت إلى سام بن نوح، ويطلق عليها في الدراسات اللغوية “الفصائل الحاميّة الساميّة” أو (Semantic Languages) وهو مصطلح أطلقه الألماني شلوتسير Schlotzer حينما درس اللغات في 1781م. فقد وجد هذا المصطلح مصطلحًا مناسبًا يجمع بين تلك اللغات والصِلات التي تربطها، ومنذ حينها أصبح هذا المصطلح دارجًا في الدراسات اللغوية عمومًا ودراسات فقه اللغة خصوصًا. ويشير الباحث إلى أن هناك فصائلَ لغويةً نشأت في الفترة التي نشأت فيها اللغات السامية، هي اللغات الهندو أوروبية، ومجموعة الأورال ألتاير، والبانتو، وغيرها.
إنَّ الحديث عن التقسيمات اللغوية محكومٌ بدراسة معمّقة للتاريخ والاكتشافات التاريخية اللغوية التي تنبجس يومًا بعد يوم، والتي بموجبها يجري تغيير تركيبة تلك الفصائل اللغوية بإضافة جماعة أو نقلها إلى فصيلة أخرى، فبعد حلِّ شيفرة رموز الكتابة المسمارية التي وجدت في عدّة مواقع أثرية، جرى إلحاق اللغة الآشورية بأسرة اللغات السامية لتشابه الأصول اللغوية بينها وبين اللغات المنضوية تحت السامية. وقد جعلت هذه الكشوفات وما نتج منها من معرفة معلوماتنا اللغوية المرتبطة باللغات تتسع ويتسع معها العلم بتركيبة اللغات وحياتها ونشأتها، وما كان لنا أن نتعرّف على اللغات الفينيقية والعربية القديمة، على سبيل المثال، إلا من تلك النقوش التي ساعدت اللغويين كثيرًا في دراسة اللهجات واللغات المنبثقة منها حديثًا.
إن الفصيلة السامية وفق ما ورد سابقًا تحتوي مجموعة كبرى من اللغات، ويقع ضمن هذا التقسيم؛ الشعوب التي تسكن المناطق الجغرافية الآتية: اليمن، والحبشة، وشبه جزيرة العرب، وبلاد الشام والعراق. وتشير العلاقة التي تجمع بين هذه اللغات (الساميّة) إلى وجود علاقة وطيدة تبيّن أن هذه اللغات كانت وحدة واحدة في فترة غائرة في التاريخ. لكن؛ هل هذا الادعاء يدحض رأي من قالوا: “إنَّ اللغات لا تنتقل من جيل إلى جيل آخر بطريقة الوراثة فحسب، بل إن هناك عوامل هيمنة قد تضطر بموجبها شعوب إلى ترك لغتها والتحدث بلغة من تخضع إليه؟” الإجابة: نعم. هذا وارد في التاريخ؛ فقد أخضع الرومان شعبي (الكلتيون والإبريون) إلى لغتهم.
ولا أرى أنَّ أصل اللغات السامية واحدٌ، وأنَّ اللغات انتقلت من سابق إلى لاحق، وتطورت من جيل إلى جيل من دون عوامل طارئة، بل إنّ فرضَ لغةٍ على شعب مسألةٌ واردةٌ في التاريخ، وإنَّ المستعمر الذي لا يتورع عن سلب كل المقومات من الشعب الذي يستوطن أرضه لن يتورع عن سلبهم لغتهم، وقد رأى العالم ذلك في أكثر من منطقة أثناء الحِقَب الاستعمارية.
وبناء عليه، فهناك من قال إنّ البابليين لم يرثوا لغتهم – وهي من الأسرة السامية وفق تصنيف اللغويين – من أجدادهم. وكذلك هو الحال مع كثير من العبرانيين والآراميين الذي سكنوا أرض فلسطين والشام، نجدهم يتكلمون السامية، غير أنهم ليسوا من جذور ساميّة، فضلًا عن شعوب الحبشة التي لا تنحدر هي الأخرى من أصول سامية. لكن الباحث في هذا السياق يتساءل: ماذا لو كان هناك مجموعة عرقية واحدة قطنت بقعة معينة وكان لها الغلبة، فانتشرت في بقاع عديدة، واستطاعت بفعل قوتها وسيطرتها أن تخضع شعوبًا أخرى للغتها ولهجتها؟ هذا ما يجب النظر فيه جيدًا عند دراسة اللغات السامية.