لا يحتاج اكتساب القوة في الفضاء السيبراني إلى أسلحة ثقيلة أو قنابل نووية أو طائرات متطورة، فقط يكفي الإستثمار في العنصر البشري من أجل بناء مكانة ذات أساس متين بين عمالقة التكنولوجيا اليوم، ومن بين أفضل الدلائل على هذا الكلام، شركة TSMC التايوانية لصناعة أشباه الموصلات، فما مدى أهمية هذه الشركة الموجودة في دولة صغيرة مثل تايوان؟ وكيف استطاعت هذه الشركة تحويل تايوان إلى أكثر الدول أهمية بالنسبة للولايات المتحدة والصين؟
مكانة شركة TSMC في عالم التكنولوجيا والإقتصاد:
تأسست شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات TSMC في سنة 1987، وهي شركة مختصة في تصنيع أشباه الموصلات وتعد أحد أهم الشركات في العالم وذلك لسيطرتها على مجال إنتاجها، حيث تمثل الشركة لوحدها حوالي 53% من إجمالي سوق أشباه الموصلات العالمي، بينما وصلت نسبة سيطرتها على سوق أشباه الموصلات المتقدمة إلى حوالي 39%، وتستخدم أشباه الموصلات المتقدمة في الصناعات المتقدمة والصناعة العسكرية مثل الصواريخ والطائرات والكمبيوترات وغيرها، ومن هنا تنبع الأهمية الكبرى لهذه الشركة.
تستمر الشركة بالنمو وقد قدر صافي أرباحها 34.07 مليار دولار سنة 2022 بزيادة قدرها 59.6% عن سنة 2021، فيما بلغت إجمالي الإيرادات ب75.88 مليار دولار بزيادة قدرها 33.5% عن العام الذي سبقه، ومن المتوقع استمرار سيطرتها على هذا السوق لسنوات أخرى، إذ أنها تنفق ما يقارب 5.47 مليار دولار على البحث والتطوير ، وتعتمد كبرى الشركات العالمية على رقائق شركة TSMC من أجل استخدامها في منتجاتها مثل شركة Apple وQualcomm و NVidia وHuawei وGoogle وAmazon والعديد من الشركات العالمية العملاقة، وعلى هذا الأساس استطاعت تايوان من خلال هذه الشركة، فرض نفسها كقوة تكنولوجية بين القوى العالمية، وأصبحت أشباه الموصلات التايوانية عناصر ضرورية من أجل نجاح الشركات الأخرى أو ما يطلق عليهم عمالقة التكنولوجيا، ويعود سبب نجاح الشركة التايوانية إلى التكنولوجيا المتطورة التي تعمل وفقها.
بصفة عامة، أشباه الموصلات هي عقل الأجهزة الإلكترونية، وهي عبارة عن قطعة سوداء صغيرة تأتي في البطاقة الأم لكل جهاز إلكتروني، تلك القطعة السوداء تكون مليئة بملايين الترنزستورات الدقيقة، كلما زاد عددها، كلما استهلك الجهاز طاقة أقل، وتحسن آدائه (جهاز كمبيوتر، هاتف ذكي، قمر صناعي، طائرة حربية، صاروخ، سيارة ذكية…إلخ) والكثير من الأجهزة الحديثة الأخرى، بالتالي تتنافس الشركات العملاقة اليوم على الطريقة التي يمكن من خلالها زرع أكبر عدد ممكن من الترانزستورات في الشريحة الواحدة، ومن أجل تحقيق ذلك يتم تصغير الترانزستورات إلى أقل حجم ممكن، وهذا هو أساس المنافسة، حيث تتفوق شركة على أخرى في زرعها لترانزستورات عرضها أقل من مثيلاتها.
عندما نتكلم عن عرض الترانزستور، فإننا نتكلم عن قياسات بالنانومتر، لتوضيح الرؤية، تعمل أغلب الشركات بتكنولوجيا 7 نانومتر فما فوق للترانزستور الواحد، بينما تصنع أشباه الموصلات المتقدمة بتكنولوجيا 5 نانومتر وقريبا سيتم الإنتقال إلى تكنولوجيا 2 نانومتر، ولتوضيح هذا الحجم بشكل أدق، يبلغ قطر شعرة الإنسان حوالي 100 نانومتر، بينما أصغر صبغي أو كروموزوم إنساني يبلغ قطره 2.5 نانومتر، وهو ما يدل على مدى صغر الترانزستورات ومدى التطور التكنولوجي الذي وصلت إليه الشركات في هذا العصر.
تعتمد شركة TSMC على تقنية 3 نانومتر من أجل إنتاج أشباه الموصلات المتقدمة وقد بدأت بإنتاجها في النصف الثاني من سنة 2022، بينما من يتم الانتقال إلى تقنية 2 نانومتر بشكل سريع ومن المتوقع أن يبدأ الإنتاج وفقها في سنة 2025، في نفس الوقت تستمر الشركة بالعمل وفق تكنولوجيا 3 و 4 و 5 نانومتر مع إجراء تحسينات عليها مع مرور الوقت ، بالتالي، إن ما يميز شركة TSMC هو كثافة الترنزستورات في الشريحة الواحدة بتكلفة أقل وآداء أفضل، ثم إن الشركة لا تسوق لمنتجاتها الخاصة مثل الشركات الأخرى سامسونغ وإنتل مثلا، بل تركز الشركة على التصنيع بدلا عن التصميم، حيث أن الشركات الأخرى تصمم رقائقها الخاصة، وتعتمد على TSMC من أجل تصنيعها، وعليه، ساهمت طريقة العمل هذه في الإرتقاء بالشركة إلى أفضل مستوى ممكن في مجال صناعة أشباه الموصلات
أقرب المنافسين لشركة TSMC هي شركة Samsung الكورية، وبدأت العمل بتكنولوجيا 3 نانومتر في سنة 2022، وعلى غرار الشركة التايوانية تسعى سامسونغ للإنتقال إلى تكنولوجيا 2 نانومتر سنة 2025، ورغم ذلك لا تزال TSMC تسيطر على جزء كبير من السوق العالمية لأشباه الموصلات.
علاقة شركة TSMC بالأمن القومي الأمريكي والصيني:
توجد العديد من الأدبيات التي تناولت أهمية تايوان بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والصين من منظور جغرافي واستراتيجي واقتصادي، وهي بالفعل تمتلك أهمية كبرى لكلا الطرفين، لكن في هذه الدراسة سنحاول التركيز على البعد التكنولوجي لتايوان وأهميته لقطبي العالم حاليا فهو لا يقل أهمية عن باقي الأبعاد الأخرى.
تعتبر TSMC مركزا عالميا لصناعة أشباه الموصلات المتقدمة، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر سوق استهلاكي في العالم بنسبة 25%، وبطبيعة الحال تليها الصين ب 24%، في الوقت ذاته تسعى كل منهما إلى محاولة إنتاج رقائق إلكترونية على أراضيها، بعيدا عن الاستيراد، وينفق كلاهما أموالا ضخمة من أجل تحقيق ذلك الهدف، لأنه عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، فستسعى الدولة بكل الطرق والوسائل إلى تجنب كل ما يمكن أن يؤدي إلى المساس بأمنها في المستقبل.
سنحاول تبسيط علاقة TSMC مع الأمن القومي لكل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية بشكل أوضح، لدينا قوتين عالميتين متنافستين، تحتاج كل منهما إلى رقائق إلكترونية تصنع في دولة صغيرة من قبل شركة عملاقة، يتم استخدام تلك الرقائق في الصناعات الدفاعية مثل الصواريخ والطائرات الحربية وأجهزة الكمبيوتر والسيارات ( دون التطرق لباقي المجالات)، في الوقت ذاته لا تعتبر تايوان دولة بمفهومها الكامل بينما تعتبرها الصين جزءا من أراضيها، بالتالي إن استقلال تايوان يضر بمصالح الصين، بينما التخلي عن فكرة الإستقلال والإنضمام للصين يساهم بشكل كبير في إلحاق الضرر بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيكون بإمكان الصين حينها بسط يدها على أكبر شركة لصناعة أشباه الموصلات ومن خلالها سيتم فرض قيود على تصدير تلك الرقائق إلى دولة عدوة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى ازدهار صناعة أشباه الموصلات في الصين من خلال نقل تكنولوجيا شركة TSMC إلى باقي الشركات الصينية، بينما تجد الولايات المتحدة نفسها عاجزة عن تطوير صناعتها العسكرية بسبب نقص في الرقائق الإلكترونية ونفس السيناريو سيحدث مع الصين في حال قررت تايوان الإنضمام القوى الغربية، وهو ما يجعل من قضية تايوان وشركة TSMC قضية شائكة تحتاج لمزيد من الدراسات والبحوث، خاصة وأننا كنا قد لاحظنا أن العقوبات الأمريكية على روسيا خلال حربها مع أوكرانيا قد امتدت لتشمل أشباه الموصلات المتقدمة وهو ما جعل روسيا تقع في مشكلة نقص الإمدادات من بينها الرقائق المتقدمة من أجل تشغيل الأنظمة القتالية الحديثة، هذا الأمر يساهم في تقويض القوة العسكرية الروسية على الميدان.
بالتالي تدرك الصين والولايات المتحدة الأمريكية أنه من المحتمل حدوث سيناريو مشابه لكليهما في حالة فقدان تايوان، وعليه يحاول كل منهما الإستثمار في البحث والتطوير والإستثمار بقوة من أجل تطوير صناعة أشباه الموصلات داخل حدودهما، في نفس الوقت، لايمكن لأي طرف المخاطرة والتسبب في أي اضطراب قد يحدث في تايوان لأن ذلك من شأنه أن يعطل سلاسل التوريد مما يكلف اقتصاد العديد من الدول بصفة عامة والولايات المتحدة والصين بصفة خاصة، خسائر اقتصادية وعسكرية كبيرة، لكن بالنسبة للولايات المتحدة، قد يتلاشى في المستقبل هذا المشكل باعتبار أن الشركات الأمريكية أقرب للتكنولوجيا التي تستخدمها TSMC من الصين، خاصة وأن الشركات الأمريكية كانت رائدة لفترة طويلة في هذا المجال ولن يكون من المستحيل بالنسبة لها العودة لمكانتها الطبيعية، بينما سيكون على الصين بذل مجهودات مضاعفة من أجل إيجاد مكان مع عمالقة هذه الصناعة.