ذوو الإعاقة في غزة… مأساة مضاعفة

هناك، تحت زخات القصف، خلف الجدران وداخل ما تبقّى من خِيَم النزوح، تتوارى قصص صمّاء وأخرى بكماء. بعض أصحابها يعجزون عن الحركة وبعضهم الآخر لا يقوون على التعبير. صرخات صامتة، لكنها صامدة. إنها تنتظر من يبوح بها أو يكتب عنها. فالإعاقة خنقت صداها وأبطالها لا أمل لديهم سوى بشيء من العدالة.
“أنا عاجزة عن الرؤية، ومعتادة على منزلي الذي أدرك تفاصيله. أخشى الانتقال إلى مكان آخر حيث قد أضلّ طريقي، خاصة حين يتعلّق الأمر بالمراحيض والتنقّل وسط الأماكن المكتظّة”.
“هذه المرّة لن نتمكّن من الفرار. فالكرسي المتحرّك القديم الذي تستخدمه أختي لم يعد صالحاً. وهي باتت ثقيلة الوزن فكيف لي أن أحملها وإلى أين يمكن أن نهرب؟”.
“يستطيع إبني التنقّل بواسطة عكّاز. لكنه ما أن سمع في أحد أيام الحرب صوت القصف حتى تسمّر وصمّ أذنيه بأصابعه وانفجر صراخاً. لم أتمكّن من حمله وهو لم يساعدني في ذلك، فاضطررت لجرّه أرضاً ما تسبّب بأضرار جسدية بالغة لديه”.
صرخات ثلاث تلخّص معاناة آلاف مؤلّفة من ذوي الإعاقة الذين ارتفع عددهم بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر في فلسطين من 170 ألفاً إلى 320 ألف شخص. إعاقات تتنوّع، بين سمعية وبصرية وحركية، ومعظمها ترافق أصحابها حتى الرمق الأخير.
معاناة ولا مبادرات
يعاني ذوو الإعاقة في غزة من صعوبة الفرار من الهجمات والضربات الجوية، لا سيّما في ظلّ غياب التوعية والتحذيرات الفعالة. فالهرب يكون شبه مستحيل مع استخدام الكراسي المتحركة وغيرها من الأجهزة المساعِدة. كما يؤدّي انقطاع التيار الكهربائي إلى تعطّل المصاعد ما يعرقل حركة قاطني الطوابق العليا منهم.
في حديث معه، يشكو لنا الغزّاوي عبد الهادي موسى أبو ماضي حاله. “أنا جريح حرب. تمّ استئصال عينيّ الاثنتين وبتر يدي اليمنى وإصبعين من يدي اليسرى. كما أنني فقدت حاستَي الشمّ والذوق، أما حاسة السمع فمعدومة في الأذن اليمنى وأستعين بسماعة طبية في اليسرى. هذا عدا عن الشظايا المتغلغة في كافة أنحاء جسدي”. يخبرنا أبو ماضي عن ظروف العيش داخل خِيَم النزوح الحارة نهاراً والباردة ليلاً. هذا عدا عن شحّ – لا بل شبه انعدام – الكهرباء والإنترنت والمياه والطعام. أما هاجس الخوف من “الضربة” المقبلة، فتزيده رعباً الحيوانات الضالة والحشرات والزواحف التي باتت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية هناك.
نسأله إذا كان يتلقى أي دعم محلّي، إقليمي أو دولي، فيجيب: “قطعاً لا. ليس هناك أي دعم من أي جهة. على الصعيد الشخصي، وبسبب إعاقتي نتيجة الحروب المتكررة على القطاع، أحتاج إلى علاجات كثيرة بينها ما ليس متوفّراً داخل غزة، إضافة إلى مستلزمات الحياة اليومية المختلفة التي كفلها القانون الدولي”.
نظرة متشائمة
في آذار/مارس الماضي، أظهرت دراسة لدائرة بطاقة الإعاقة في وزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية، بالتعاون مع منتدى غزة للإعاقة البصرية، بعنوان “الواقع المعيشي للأشخاص ذوي الإعاقة في ظل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة”، أن هؤلاء يواجهون صعوبات في الحياة اليومية بدرجة كبيرة جداً، تمثّلت في الحركة وفقدان الحاجات الأساسية التي يعتمدون عليها. ويعود ذلك لتركهم لأماكن سكنهم التي اعتادوا عليها وعدم وجود أماكن بديلة مهيّئة تتناسب مع طبيعة إعاقاتهم، كما فقدانهم للأدوات المسانِدة المناسِبة.
ويواجه ذوو الإعاقة أوضاعاً اقتصادية متردّية نتيجة عدم تلبية المساعدات المقدَّمة لحاجاتهم الأساسية. ناهيك بانعدام مصادر الدخل وغلاء الأسعار. فهُم غير قادرين على التكيّف مع ظروف الحرب وإيجاد فرص عمل تمكّنهم من تأمين احتياجاتهم. يضاف إلى ذلك صعوبة الحصول على المساعدات بسبب ازدحام النازحين وتركّزهم في بقعة جغرافية ضيّقة تجعل التنقّل لذوي الإعاقة بين مقدّمي الخدمة أمراً بالغ الصعوبة.
نفسياً واجتماعياً، يواجه ذوو الإعاقة أوضاعاً سيّئة لغياب الأمن والخوف الدائم من الفقد وضبابية الوضع الراهن. ويأتي ذلك انعكاساً لصعوبة تعاملهم مع الحالات الطارئة أو لتعرّض أمكنة قريبة للقصف نظراً لظروفهم التي تعقّد عملية هروبهم من مكان الخطر. كما أنهم يشعرون بكونهم عبئاً على أُسَرِهم حيث أنهم، في ظل هذه الظروف، عاجزون عن تلبية احتياجاتهم الأساسية.
ثم هناك الوضع الصحي والبيئي، إذ يعاني هؤلاء من صعوبة الاعتناء بالنظافة الشخصية (واستخدام المراحيض العامة)، وتردّي البنية التحتية وعدم توفّر مياه صالحة للشرب، وصعوبة الحصول على العلاجات الملائمة. وينتج ذلك عن تفشّي الأمراض والأوبئة وشحّ المياه الصالحة للاستخدام، وتكوّن مستنقعات مياه الصرف الصحي، ما يجعل ذوي الإعاقة عُرضة لخطر السقوط فيها.
صعوبة التكيّف مع المتغيّرات
بدوره، أشار رئيس الاتحاد الوطني للإعاقة العقلية في لبنان، الدكتور موسى شرف الدين، إلى أن ذوي الإعاقة هم أكثر المتضرّرين من أعمال العنف والاحتلال والحروب والصراعات المسلّحة، لتأثرهم أساساً بفكرة الزمان والمكان. “يمكننا، كأشخاص عاديين، التكيّف مع كافة أنواع المتغيّرات وأخذ الاحتياطات اللازمة والتعاطي مع الإنذارات المبكرة بشكل سريع، لكن حال ذوي الإعاقة مختلفة تماماً. فلهؤلاء “روتين” حياة يتكيّف بثلاثة أبعاد ثابتة: الزمان، المكان والمحيط الاجتماعي. وأي تغيير في هذه الأبعاد يؤدّي إلى اضطراب التوازن وفقدانه في التعاطي لديهم”.
وبالفعل، هذا ما نلمسه اليوم في حرب غزة، حيث يصاب الصمّ والمكفوفون والمقعدون بحالة من الحيرة والضياع التام. إذ يصعب عليهم مغادرة مواقع الخطر نظراً لبطء حركتهم أو انعدامها، أو أنهم يعجزون عن سماع أصوات الانفجارات أو حتى الإنذارات لمعرفة ما يدور من حولهم. “هذا عدا عن أن البعض ينساهم في مواقع الخطر ولا يتذكر حتى وجودهم أحياناً. هذا إلى جانب بطء اللياقة التكيّفية عندهم كونهم يرتبطون بشكل قوي بروتينيات حياتهم اليومية، من أكل وشرب ونوم وكيفية استخدام المرحاض، وهي جميعها عوامل تختلف وتتبدّل في أماكن اللجوء فيصبح تكيّفهم مع هذه المتغيّرات شبه مستحيل”، كما يختم شرف الدين.
رسالة من رحم الألم
صحيح أن القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان يؤكّدان على حماية ذوي الإعاقة في النزاعات المسلّحة واتّخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتقليل الضرر اللاحق بهم؛ وصحيح أيضاً أن اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق ذوي الإعاقة نصّت على ضرورة اتّخاذ الدول الأعضاء كافة التدابير الممكنة لضمان حمايتهم وسلامتهم؛ كذلك، يحثّ قرار مجلس الأمن رقم 2475 جميع أطراف النزاع المسلّح على اتّخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين ذوي الإعاقة ودعم تقديم مساعدات مستدامة وملائمة وشاملة لهم؛ كما أن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان نوّهت في العام 2015 إلى أن عدم الامتثال للالتزامات المطلوبة يرقى إلى مصاف التمييز على أساس الإعاقة. إلّا أن كل ذلك لا يرقى لأكثر من حبر على ورق في حمأة الصراعات.
بحسب المختصّين، لا بدّ من العمل على تمكين ذوي الاعاقة لغرض المشاركة الكاملة في جميع النواحي القانونية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية، وتدريبهم على التعاطي والتكيّف مع المتغيّرات الناشئة عن الحروب والنزاعات. كما لا بدّ من إنشاء مخيمات خاصة لهم ولعائلاتهم تراعي طبيعة الإعاقة وتمكّنهم من سهولة الحركة، كما دمجهم ضمن برامج تساعد في الحدّ من الأعباء والضغوطات التي تخلقها هذه النزاعات بإزاء ظروف حياتهم اليومية.

قبل أسبوعين، ورغم قساوة المعاناة، أصرّ عبد الهادي موسى أبو ماضي على مناقشة رسالة الماجستير خاصته، وموضوعها “القيادة والإدارة الاستراتيجية”. جرى ذلك داخل خيمة يقطنها بعد أن دُمّر منزله بالكامل. هي أشبه برسالة صمود أرسلها أبو ماضي من قلب الدمار إلى إخوانه وأخواته ذوي الإعاقة. على أمل أن يتحوّل شعار “مجتمع للجميع” حقيقة، وأن تصغي الجهات المعنيّة إلى صدى صمت من لا صوت لهم.