الإنسان ليس آلة ولن يستبدل بالآلة، كما أنه ليس مجرد حيوان عاقل أو متكلم كما هو الحد الأرسطى، إنه أكبر من ذلك، هو حياة ومعنى، ومادة وروح ومشاعر، هو أول التاريخ وآخره، فالإنسان من بدأ التاريخ وبه استمر والله وحده يعلم متى ينتهى.
الإنسان أيضا هويات فرعية أخرى، فهو ينسب لعائلة وأسرة ووطن وعرق ودين، وآباء وأبناء، وثقافة ووعى وقيم حاكمة ثابتة أحيانا ومرنة تتغير أحيانا أخرى.. ومن هذا الوعى الإنسانى العميق والمبكر خرج كثير من العلوم منذ زمن غير معلوم، ظهرت علوم الفلسفة- أم العلوم- وعلوم المنطق التاريخ وعلوم الأخلاق والقانون، وعلوم الميتافيزيقا الدين- سماوى أو غير سماوى- وعلوم الهوية والتوثيق والحساب والهندسة والفلك والطب، وغيرها فى العصور القديمة، وعلوم كالجبر والعمران، وفى العصور الحديثة تطورت بعض هذه العلوم، كما ظهرت علوم أخرى، كعلوم المنهج والعلمنة والاقتصاد والسياسة والقانون الدولى والمنظمات الدولية وحقوق الإنسان وغيرها كثير.
وقد أثارنى، كما آثار الكثيرين غيرى، تسفيه واستخفاف البعض لهذه العلوم، وأنها لم تعد بذات طائل، أو مرجوع مادى أو وظيفى فى عالم ما بعد الذكاء الاصطناعى والثورة التكنولوجية والتواصلية التى نعيشها ونشاهد كل يوم تطوراتها ومستجداتها، وأنه لا بد أن نرفع عن الطالب وطأتها، وأن نوجه تركيزه على هذه العلوم الحديثة أو ما بعد الحديثة، فقط.
فضلا عن تجاهل أصحاب وجهة النظر هذه لأهمية علوم التاريخ مثلا التى تشكل هويات الشعوب وحدود أوطانها ورافد كرامتها ووثيقة حقوقها التاريخية، إلا أنهم لا يعرفون أن هذه العلوم الحديثة، التى تطورت فى العصور القديمة، أو الوسيطة أو ولدت فى العصر الحديث، تظل مشغولة بسؤالها الإنسانى، فالحديث عن أخلاق الطب تخصص فى كثير من كليات الطب مثلا، والحديث عن أخلاقيات التكنولوجيا والثورة المعلوماتية يبحثه ويحققه وينفذه العديد من القوانين الآن، بما فيها القوانين المصرية والعربية، ومع ثورة الذكاء الصناعى، نجد الحديث عالميا ووطنيا وداخل أروقة المنظمات الدولية مشغولا بأخلاقياته، ورفعت الأمم المتحدة واليونسكو وبحثت فى عشرات المؤتمرات هذه المشكلة، أخلاقيات الذكاء الصناعى، وضرورة الضبط أو على الأقل المرجعية القانونية له.. وأن الأبناء والطلاب لا يولدون علماء ذكاء اصطناعى، بل مراحل من التربية والتوجيه المعنوى والإرشاد القيمى والأخلاقى، نستدعى فيها ما توفر وما يناسب من خزانات القيم والمعنى والأخلاق والأساطير أحيانا.
ما أود أن أطرحه فى هذا المقال أيضا، أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون تاريخ وبدون قيم، وبدون هوية، وبدون هذه العلوم الإنسانية، سواء بالنسبة لوجوده الفردى أو وجوده الجمعى، وجود شخص أو وجود أمة، وجود أسرة أو وجود قبيلة أو وجود شعب!!، لا يمكن تخيل كردى وفهم مواقفه وسلوكياته إلا بمعرفة جمهورية مهاباد وحلم كردستان القديمة.. ولا يمكن فهم الصراع الطائفى فى المنطقة إلا باستحضار الخلافات القديمة بين الفرق والطوائف، بدءًا من ملحمة صلب المسيح إلى مقتل الحسين إلى صلب زيد بن على!!، وهكذا دواليك.
لا يمكن فهم علاقتنا بالغرب دون الحروب الصليبية ومتتابعاتها، والعلاقة بين الاستعمار والاحتلال، ولا فهم الصراع الفلسطينى الإسرائيلى المشتعل دون فهم خلفياته التاريخية القديمة، الدينية وغير الدينية، كما لا يمكن معرفة الصهيونية دون معرفة ما هو جبل صهيون أولا!!.
نعم لكل عصر تقنيته، وآلاته، ولكنها ليست أكثر من آلة، فالإنسان كائن وكيان ولكن أيضا وجدان، يحتاج الحب ويعرفه، ويحتاج الأمن والأمان والسلام والقانون.. لو لم يشارك نوبل فى صناعة السلاح المدمر ما كانت دعوته للسلام واهتمامه به.. لو لم يكن جوزيف روتبلات مشاركا فى صناعة القنبلة النووية ما كان نشاطه فى مقاومة انتشار السلاح النووى. إنها القيم يا صديقى التى تجذرها وتمكنها وتناقشها العلوم الإنسانية.. والتى تجعل الإنسان إنسانا وتحفظه من أن يكون مجرد آلة أو سلاح مدمر.
ختاما، أرى أن من يطرحون مثل هذه الآراء المستخفة والمركزين وفقط، على المادة والآلة، وأن يتماهى وينطبق الإنسان عليها، ويكون مثلها بلا معنى، لا يعرفون الهوية الإنسانية بشكل صحيح، ولا يعرفون الهويات الوطنية المائزة بشكل مدقق، ولكنهم مستلبون تجاه الحضارة الغربية فى بعدها المادى فقط، بل فى الحقيقة مستلبون تجاه الآلة والمادة.. دون وعى وحد إنسانى واضح هو من صنع كل هذا التقدم عبر التاريخ.