بين الحين والآخر تبرز دعاوي السعي لتقليل اكتساح التفاهة للواقع المعاصر، ولكن رغم كل هذه المحاولات تؤكد المشاهدات أن سيل التافهين والتفاهة بدلاً من انحساره يتمدد ليشمل مختلف المجالات الحياتية، بل ويتسلل إلى تجمعاتٍ ومهنٍ كان يعتقد أنها فعلاً تمتلك الحصانة والمناعة ضد أسس التفاهة.
في عام 2015 أصدر آلان دونو -أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبك- كتاباً بعنوان “نظام التفاهة” (La médiocratie)؛ بين فيه تجليات تسلل التفاهة إلى الأكاديميا، وإلى عالم الاقتصاد والأعمال، وحقيقة تغلغل التفاهة في الحياة المعاصرة، بل وتكوينها لأسس التقدم والحضارة على التعريف السائد والمتداول. يذهب دونو إلى أكثر من ذلك فيؤكد سيطرة هذه التفاهة على أسس الدولة الحديثة، ووسائل الإعلام المختلفة. يتعمق الكتاب كذلك في تبيين جذور هذه الإشكاليات، ويوضح مدى تمدد تأثيراتها على الحياة العامة بشكل موغل في التفصيل.
يوضح الكتاب العلاقة الوطيدة بين المال والأكاديميا، ويؤكد أن هذه العلاقة نتج عنها تسليع حقيقي للمعرفة، بل وارتهان الأجندة البحثية في العديد من المحافل البحثية والتجمعات الأكاديمية لطلب السوق وتقاطعات الطلب والعرض فيه. ويذهب دونو إلى أن المعرفة في أصلها وُجدت لمجابهة ومواجهة المشاكل الحياتية، وإيجاد الحلول للمعضلات التي تعاني منها المجتمعات، وليس تحقيق الأرباح لصالح أصحاب رؤوس الأموال كما هو حاصل في الأكاديميا في الوقت الحالي.
توصيف دونو للظاهرة ليس مبالغاً فيه كما يظهر للوهلة الأولى، وبقليل من التبصر والتأمل نجد أنه فعلاً يصف الواقع الأكاديمي كما هو. كما أننا بإزاءه نجد مقالة لألكسندر أفونسو -أستاذ السياسات العامة المشارك بجامعة ليدن- بعنوان “كيف تشبه الأكاديميا عصابات المخدرات” (How Academia Resembles a Drug Gang).
نسج أفوسنو في هذه المقالة خيوط التشابه والتشابك بين الحياة الأكاديمية من ناحية، ونمط عيش عصابات المخدرات من ناحية أخرى. وينطلق في تأكيد فرضيته من طرح استشكال مخاطرة الصف الأول من مروجي المخدرات بحياتهم في مقابل أثمان زهيدة لا تتوافق مع حجم المخاطرة التي ينخرطون فيها، ويعلل سبب ذلك في مُنى هذا الصف وسعيه للوصول إلى مناصب قيادية، وضمان مستقبل أفضل لاحقاً على غرار أرباب أعمالهم. ومن ثم ينطلق أفونسو من المثال السابق، ويسقطه على حياة خريجي الدراسات العليا في العديد من الجامعات حول العالم، والتي ينخرط فيها الخريجون بمسار العمل الأكاديمي رغم الأفق الضبابي فيه والصعوبة التي تكتنفه في مقابل العديد من الوظائف الأخرى، ومن ثم يسوق الإحصائيات التي تعضد الفكرة التي ذهب إليها.
يضاف إلى ذلك -كما يذكر أفونسو- كمية الاستغلال التي يتعرض لها طلبة الدراسات العليا من قبل الدكاترة، والتي تتشابه مع آليات الاستغلال في عصابات المخدرات، إضافة إلى أنماط عملية أخرى تجمع بين المجتمعين وتبرز التشابه بينهما يذكرها أفونسو في حنايا مقالته. تعرضت المقالة التي صدرت عام 2013 للعديد من التعقيبات والردود، والتي تراوحت بين رافض للفكرة، ومؤيد لها، ومن اعتبرها نوعاً من المبالغة، إلا أنها في الواقع لامست جرحاً يتم تحاشي التركيز وتسليط الضوء عليه في الأوساط الأكاديمية.
تعتبر إشكالية الإيغال في التخصصية أحد الملامح التي تضاف إلى رزمة التفاهة في الحياة الأكاديمية. التخصص في أحد الفروع المعرفية الدقيقة يحرم المتعلم من فهم الصورة العامة لما يدرسه، ويحصره في نقاشات قد لا يكون لها أي تمظهرٍ أو تجلٍ حقيقي على أرض الواقع، بحيث أنها لا تفيد المجتمع من جهة، وتحرم الدارس من الوصول إلى جوهر العلم والعلوم من جهة أخرى. التخصصية الموغلة تؤدي إلى اقتصار دور التجمعات الأكاديمية في إكساب الدارس المعارف النظرية البحتة، وعدم إكسابه مهارات التفكير النقدي، والتحليل، والتطلع والشغف المعرفي.
تتساهل الكثير من التجمعات الأكاديمية في تمرير الافتراضات البحثية التي تتسق وتنسجم مع أفكارها وأهدافها، في مقابل التشديد والتعنت مع تلك التي لا تتسق وتنسجم معها؛ رغم احتمالية كون صوابية الثانية أعلى من الأولى. من المهم كذلك في هذا الصدد، التنبيه على أهمية وعي المنخرط في الحياة الأكاديمية بذاتيته، والقصور عن هذا الوعي يودي بالمرء إلى أن يذوب في الأهداف البحثية والأكاديمية، والتي قد لا تفيده على الصعيد الشخصي، ولا تفيد المجتمع وأفراده في كثير من الأحيان.
ختاماً، الكم الهائل من الأبحاث المعرفية التي تصدر بشكل دوري ودائم؛ ماهي الحصيلة التي يستفيد منها المجتمع بشكل أو بآخر منها؟ وما هو الرقم الذي يعبر عن عدد الأبحاث التي تمت كتابتها فقط للحصول على ترقية أكاديمية؟ كيف يستفيد صناع القرار من هذه الأبحاث؟ وهل فعلاً ما يكتبه الباحث ينسجم مع ما يراه أم أنه فقط يتسق مع الأفكار المهيمنة على هذا الحقل العلمي أو الدورية المراد النشر فيها، أو المؤسسة الأكاديمية التي ينتمي لها؟ وماذا عن التراتبية التصنيفية الخاصة بالمجلات العلمية، هل هي فعلاً مبنية على أسس معيارية واضحة أم تكتنف هذه التصنيفات أبعاد ومحددات أخرى؟ مجرد محاولة تخيل إجابات الأسئلة السابقة كفيلٌ بتوضيح العديد من النقاط في هذا المجال، والتي تُبرز بجلاءٍ الفكرة الأساسية للمقال.