الحركة الطلابية الفلسطينية.. بين الحضور والغياب

لطالما لعبت الحركة الطلابية عربيًا وعالميًا دورًا هامًا وحاسمًا في عملية تغيير الواقع السياسي والاجتماعي، فالحراكات الوطنية التي قادها الشباب عبر التاريخ في سبيل التحرير والاستقلال أدت إلى وقف حروب وإسقاط أنظمة عنصرية ودول استعمارية، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ ثورة 9 آذار 1919 في مصر، التي خرج فيها آنذاك طلبة الحقوق في جامعة القاهرة في تظاهرات احتجاجية ضد الاحتلال البريطاني، واعتراضًا على نفي زعيم الحركة الوطنية آنذاك سعد زغلول، وكانت محصلتها بعد أن امتدت لتشمل الجامعات الأخرى خضوع بريطانيا لمطالب الشعب، وعودة سعد من المنفى، كما شكلت نقطة انطلاقة لتحرير مصر من الاحتلال البريطاني.
وفي سياق الحرب الأمريكية على فيتنام عامي 1968 و1970، كان للحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية والأوروبية، دورًا بارزًا في إيقاف الحرب. والحال عينه في جنوب إفريقيا، فالاحتجاجات الطلابية ضد نظام الفصل العنصري ساهمت في إسقاطه. وشواهد التاريخ لا تُعدّ ولا تُحصى.
في خضم حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة خاصة وفلسطين عامةً، كان للحراك الطلابي العالمي دورًا في مساندة غزة، فبدأت الاعتصامات والاحتجاجات من جامعة كولومبيا الأمريكية ووصلت إلى أكثر من 70 جامعة أمريكية، وامتدت لتشمل جامعات أوروبية أخرى. وهذا يجعلنا نطرح سؤالًا عن دور الحركة الطلابية الفلسطينية؟ هل غُيّبت أم تغيّبت؟
السابع من أكتوبر 2023 وما بعده، طرح العديد من التساؤلات حول دور وفاعلية كافة الفواعل الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني، خاصة وأن القضية الفلسطينية تمر في مرحلة مفصلية وحساسة، هذا الدور الذي يكن بالمستوى المأمول على كافة الصعد، مقارنة بأدوار هذه الفواعل تاريخيًا، بل الحقيقة أنه جرى إضعافها جميعًا على مر السنين ومن بينها الحركة الطلابية الفلسطينية.

بالنظر إلى دور الحراك الطلابي الفلسطيني تاريخيًا، فقد كان في طليعة حركة التحرر الوطني، وساهم في تشكيل الأطر السياسية والفكرية لحركات المقاومة الفلسطينية، ولعب دورًا هامًا على صعيد الوعي والتعبئة، إبان الانتداب البريطاني الذي حاول جاهدًا أن يعمل على تجهيل الفلسطينيين وطمس تراثهم وهويتهم، كما حاول الحدّ من التعليم، فلم يكن بمقدور كافة أبناء الشعب الفلسطيني أن يلتحقوا بالتعليم آنذاك نظرًا لتكاليفه الباهظة. ومع ذلك، عمل الفلسطينيون على تشكيل ما أسموه “بجمعيات الخطابة” والتي كانت بمثابة بيئة حاضنة لأنشطتهم المختلفة، وجسمًا هامًا من أجسام الحركة الطلابية، والتي سرعان ما تحولت إلى بيئة تحريضية ومقاوِمة على الصعيد السياسي، في ظل الواقع الذي كان يعيشه الشعب الفلسطيني، والمؤامرات التي كانت تحاك ضد القضية الفلسطينية من قبل الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، ومن رحم هذه الجمعيات خرج أول اتحاد طلابي فلسطيني عام 1936، وقاد المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني اعتراضًا على السياسات المؤيدة للمشروع الصهيوني، كما لعب دورًا كبيرًا في إنجاح الإضراب الكبير في العام ذاته (إضراب 1936)، أما خارجيًا، فكان لرابطة الطلبة الفلسطينيين التي تشكلت في القاهرة في جامعة الملك فؤاد، دورًا منوطًا بالتعريف بظروف الشعب الفلسطيني والمخاطر التي تهدد الأمة العربية إذا ما توغل هذا الاستيطان السرطاني ونُفذ المشروع الصهيوني.
استمر الدور الفاعل لنشاط الحركة الطلابية الفلسطينية خلال النكبة أيضًا، أو بالأحرى أعادت تشكيل نفسها وترتيب صفوفها في كافة أماكن الوجود الفلسطيني، واعتمدت الكفاح المسلح آلية لتحرير فلسطين، رغم التقييدات والملاحقات الإسرائيلية. في الواقع، لم يكن الحراك الطلابي عملًا نقابيًا وسياسيًا فقط، بل يتجاوزهما إلى العمل التنظيمي والعسكري والثقافي، هذا المجهود الشبابي أفضى مع عوامل أخرى إلى قيام منظمة التحرير الفلسطينية، فمعظم الفصائل الفلسطينية تشكلت على يد القيادات الطلابية.
في أوائل السبعينات، بدأت تتشكل مجالس الطلبة في الجامعات الفلسطينية، وساهمت بشكل رئيس في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية والمشهد السياسي العام، لا سيما وأن النشاط الطلابي آنذاك كان انعكاسًا لحالة الشارع الفلسطيني في ظل تواجد منظمة التحرير وقادتها في الخارج، فكان لهذه المجالس دورًا أصيلًا في التوجيه والتوعية والتجنيد ورفد الحركة بكوادر شبابية فاعلة، ولا يمكن أن ننسى دورها أيضًا في الانتفاضتين. هذا التصاعد لدورها وأهميته وفاعليته أقلق المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي عملت جاهدةً على إجهاض هذا الحراك.
إذن، رغم حيوية الدور وأهميته ما الذي جرى؟
في الحقيقة، وفي ظل التحولات التي فُرضت على المجتمع الفلسطيني منذ بداية التسعينات وتحديدًا بعد اتفاقية أوسلو، ونشوء السلطة الفلسطينية، أصاب الوهن كافة الفواعل الاجتماعية في فلسطين، وكون الحركة الطلابية الفلسطينية فاعل رئيس من بين هذه الفواعل فقد تأثرت بشكل كبير، فقد شهدت هذه الفترة تراجُعًا لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني، بعد أن تم إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية وغياب فصائلها عن القيام بأدوارها، كما شكلت كارثة الانقسام الفلسطيني الفلسطيني عام 2007 ضربة قوية لدور وأداء مجالس الطلبة، وخلق هذه الانقسام أيضًا حالة من الاستقطاب السياسي، ومن بين الأمور التي أسهمت كذلك في إضعاف الحركة الطلابية، تبعيتها للفصائل، فبعد أن كانت هي المؤسِسة لها، صارت ناطقة باسم فصائلها وذراعًا تنفيذيًا لها تحمل وتنفذ أجنداتها. ونتيجة لذلك أُسقطت المصلحة الوطنية وامتهنت الحركة الطلابية طريق المناكفات السياسية والمحاصصة الانتخابية، وهذا انعكس في المناظرات الطلابية التي تشهدها الجامعات الفلسطينية عند انتخابات المجالس الطلابية، التي أصبحت “ردحًا سياسيًا” لا أكثر.
من العوامل المهمة أيضًا التي ساهمت في غياب وتغييب الحركة الطلابية عن دورها، تحويل الجامعات من بيئة مستقلة حاضنة للمقاومة إلى مؤسسات يهيمن عليها رأس المال الفلسطيني، عدا عن تقييد الأنشطة الطلابية، وسيطرة أجهزة الأمن على فضاءات الجامعات.
لماذا أقول غياب وتغييب، لأنها غُيّبت وفُرغت نتيجة العوامل آنفة الذكر، وغابت لأن هناك حالة من السخط وفقدان الثقة بكافة المنظومة السياسية، وهذا أدى بطبيعة الحال إلى عزوف الشباب عن لعب أدوارهم والقيام بها.
لذلك، إعادة المسارات إلى طريقها الصحيح، عبر تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والعودة إلى المشروع التحرري الوطني، والوحدة الوطنية، أضحت مطلبًا وطنيًا وأخلاقيًا في زمن الإبادة الجماعية، لا مجال للتفكير الآن إلا في المصلحة الفلسطينية، فمن عِبَر التاريخ، أن أي مجتمع يصيبه الوهن والضعف يُخلق من رحمه جيلًا يصحح المسار ويحاسب المتخاذلين والمتواطئين.