التَّطرّف السِّياسي أثبت وجوده في أعظم الدُّول

التَّطرّف بمفهومه العام يُشير إلى الابتعاد عن الوسطيَّة والاعتدال وعدم تقبل الآخر وهذه الظَّاهرة تطال الفرد والجماعة والأحزاب أو حتّى الدَّولة بكامل كيانها وأفرادها.
فالتَّطرُّف قد يكون من فردٍ فتصدر منه تصرفاتٌ تعكس عدّمَ تقبُّل الآخر، أو قد يتمسّك بمبادئ وآراء معيَّنة، وقد يكون التَّطرّف من قِبل مجموعة أو شعب بأكمله وهنا تدخل العنصريَّة في هذا السِّياق.
أمّا بواعث وأسباب التَّطرّف فترجع إلى عدّة أسباب منها الاقتصاديّ والاجتماعيّ ومنها العقائديّ والدّينيّ، لكن الحالة الأخطر والَّتي نُسلط الضوء عليها في تقريرنا الحالي هي التَّطرف السِّياسي، أي ذلك التَّطرُّف الَّذي يأتي تبعًا لتوجُّهات سياسيَّة فيثيرُ البغضاءَ والحقد والكره بين أفراده المختلفين وقد يقودهم إلى الجريمة والإرهاب.
كحالة نعمل على ذكرها وهي محاولة اغتيالِ مُرشَّحٍ لرئاسةِ الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة Donald Trump دونالد ترامب من قِبَل شابٍّ عشرينيٍّ يُدعى (توماس ماثيو كروكس) الَّذي استطاعَ أن يُطلقَ سبعَ أو ثمانيَ طلقاتٍ ناريَّةٍ تجاهَ ترامب عن بعد 120 مترًا استطاع من خلالها خدشَ الأذنِ اليُمنى لترامب.
مثل هذه الحادثة هزّت العالم بأسره على اعتبار أنّها تحمل مفهوم العنف السِّياسي ولها عدّة مؤشِّرات، فمن ناحيةٍ نحن نتكلَّم عن مُرشح رئاسيٍّ لأكبرِ دولة في العالم “الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة”، ومثل هذه الدَّولة تتربَّع على عرش الحريَّاتِ وحقوقِ الإنسان وحريَّةِ إبداء الرَّأي والتَّعبيرِ وسيادةِ القانون فوق كل اعتبار. وما حصل حقيقةً يمكن أن نستنتج منه أنّ الخطاب السِّياسيَّ النَّاريَّ يصلُ حقيقةً إلى درجةِ خطاب الكراهية، والَّذي يلعبُ دورًا تحريضيًّا تجاه الطَّرفِ الآخر لاستخدام العنف، وهذا ما وجدناه، فأسلوبُ ترامب في خطاباتِه تقوم على كراهيةِ الطَّرفِ الآخرِ واستفزازِ جمهورِ الطَّرفِ الآخر، وهذا ما يقدّم مؤشِّرًا على أنً أسلوب خطاباتِ هؤلاء يُعتبرُ سببًا أساسيًّا لنشأة أو تطوُّر التَّطرف السِّياسيِّ في بلدانهم والَّذي يقود البعض إلى استخدام العنف كما فعل توماس.
من جانب آخر كشخصيَّة الفاعل توماس ماثيو كروكس العشرينيّ من عمره نجد خطورة الأمر من حيث صغر سنِّه وتشبِّعه بالفكر السِّياسيِّ المتطرِّف، حيث صرّح بشكلٍ علنيٍّ وبمقطع الفيديو الخاص به قبل الإقدام على العمليَّة أنَّه يكره الجمهوريِّين. وما قام به من حيازة السِّلاح والمتفجِّرات والإقدام على إطلاق النَّار علنًا تضرب كلَّ مفاهيم القوانين والسِّيادة والأمان في الشَّارع الأمريكيّ، وهذا ما يُعتبر خطرًا حقيقيًّا من حيث التَّطرّف السِّياسيّ على الصَّعيد الوطنيِّ للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
على الصَّعيد الاجتماعيِّ تعكس هذه الواقعة في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة عدم استقرارٍ سياسيٍّ على اعتبار أنَّنا أمام انقسامٍ حادٍّ ومتطرِّفٍ في الآراء السِّياسيَّة بين الجمهوريِّين والدِّيمقراطيِّين، الأمر الَّذي أدى وكبداية فقط لظهور أفراد متطرِّفين سياسيِّين يرتكبون الجرائم ويستخدمون الأسلحة للتَّخلّص من الخصوم. وهُنا نحن أمام تساؤل والوصول لإجابة عنه ليس بالأمر السَّهل، هل ما قام به الشَّاب توماس بدوافع شخصيَّة؟ أم أنَّ هنالك شبكة متطرِّفة وراءه؟
طبعاً الإجابة على هذا السؤال تحتاجُ إلى تحقيقاتٍ دقيقة، ولكن من وجهة نظري فإنَّه يصعب ويَستحيلُ لشابٍّ عشرينيٍّ أن يُقدِمَ على فعلتِهِ هذه دون شركاء ومساعدين له، وخاصةً أنَّه استطاع خرق الحماية السِّريَّة، وهذا ما قد يقودنا إلى كلامٍ مفادُهُ أنّه منضمٌّ إلى شبكةٍ استطاعت خرقَ أمن الحماية السِّريَّة للحزب الجمهوريِّ، وهنا تكون الولايات المتَّحدة أمام شبكةٍ متطرِّفة سياسيًّا تشكِّلُ تهديدًا حقيقيًّا للاستقرار في الدَّاخل الأمريكيِّ. وحقيقةً وإن كان ما سردتُه صحيحًا فلن يكون لصالحِ الولاياتِ المتَّحدة الأمريكيَّة التَّصريحُ به لأنَّ ذلك يضرّ بصورتها أمام العالم.
تؤكِّدُ هذه الواقعة وهي ليست الوحيدة أنَّ التَّطرُّف السِّياسيَّ ليس محصورًا على بلدان الشَّرق الأوسط، فما شاهده العالم يوضِّح ويثبت أنّنا أمام فكرٍ متطرِّفٍ منتشرٍ في الشَّارعِ الأمريكيِّ، وسببه الأساسيُّ سياسيٌّ أو صراع سياسيٌّ في الشَّارع الأمريكيّ، وبتحليلِ المعطياتِ يكون السَّبب الأدقُّ هو الخطابُ الَّذي يستخدمه ترامب تجاه خصومه، وهنا تتعزَّزُ خطورةُ خطاباتِ الكراهيةِ ودورها في نشوء التَّطرُّف السِّياسي كإشكاليَّةٍ تستوجب السَّعي لدراستِهَا بشكلٍ دقيقٍ ووضع تشريعاتٍ قانونيَّة محليَّة ودوليَّة لمواجهتها وحماية المجتمعات من تَبِعَاتِها.
نهايةً نقول إنَّ الدِّيمقراطيَّة بمفهومها العام أمرٌ لابدّ منه في نهضة المجتمعات، وإنَّ الصِّراعاتِ أمرٌ قائمٌ لا مفرَّ منه لكن يتوجَّب على رجالِ القانون والعقلاء في الدُّول أن يُسلِّطوا الضوء على الإشكاليَّاتِ الَّتي تكون سببًا في ظهور وتنمية مظاهر التَّطرّف والتَّطرّف السِّياسيّ تحديدًا وأبرزها خطابات الكراهية الَّتي يستخدمها قادة الأحزاب سعيًا لتحقيقِ انتصاراتِهم السِّياسيَّة ويجهلون أنَّها قد تكون سببًا لإنهاء حياتهم.