ليس معروفاً من صفى إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، الرجل المهندم الذي تلخصت مهمته بتمثيل خارجي وأنيق للمنظمة في السنوات الأخيرة. لعل مسألة من هو وراء تصفية هنية ستبقى بمثابة لغز دون حل – ومن الخير ذلك. إسرائيل عقبت على الانصراف المبارك لأحد كبار رجالات حماس بصمت استعراضي وبتجاهل تام، أما طهران فلم تكن بحاجة إلى أدلة. الزعيم الأعلى لإيران علي خامنئي وجه على الفور إصبع الاتهام إلى “العدو الصهيوني” وتوعد بثأر شديد. وهكذا أيضاً مسؤولو حماس الخارج وعموم منظمات الإرهاب الأخرى.
معقول الافتراض بأن إسرائيل لم تتوقع سيناريو آخر من تحقيق عميق يسبق الإعلان عن المذنب لعرض أدلة مؤكدة تشير إلى بصمات إسرائيلية. على أي حال، تقبع خلف هذه العملية اللامعة والدقيقة ثلاث مسائل مبدئية ذات صلة من ناحية إسرائيل بالحدث وتداعياته: موعد التصفية، ومكانها، وتأثيراتها على صفقة المخطوفين واستمرار الحرب في قطاع غزة.
المكان مسألة واضحة وسهلة أكثر على الشرح ضمن كل ما تبقى غيرها. فهنية، بصفته الشخصية التمثيلية في منظمته، تمتع بحرية حركة شبه مطلقة. فقد أكثر من زيارة الدول الداعمة لحماس، وعقد لقاءات مغطاة إعلامياً. في قائمة المقاصد الدائمة لرحلاته – روسيا، تركيا، إيران، مصر، قرر هنية أن تكون الدوحة عاصمة قطر، مستقره.
وعلى فرض أن إسرائيل هي التي كانت معنية بتصفية هنية، فقد كان الخيار بين تصفيته في إحدى الدول التي لإسرائيل معها علاقات دبلوماسية وبين تنفيذ العملية على أرض إيران حتى بثمن ثأر إيراني. وبالتالي، فقد تم اختيار المكان بالتأكيد في ظل اعتبار سياسي إلى جانب الاعتبار العسكري والتنفيذي. اختيار إيران كساحة للاغتيال رهان غير سهل لكنه منطقي.
من حيث الموعد، ثمة افتراض بأن اغتيال هنية كان حدثاً مخططاً له.
دون ذكر الرجل، نذكر أن إسرائيل أعلنت فور 7 أكتوبر بأنها كلفت جهاز الأمن بمهمة تصفية كل قيادة حماس السياسية والعسكرية. وقد ظهر هنية في القائمة السوداء إلى جانب صالح العاروري ومحمد ضيف ومروان عيسى الذين انضم إليهم في الساعة الثانية قبل فجر الأربعاء الماضي.
الحصانة انتهت
ولما كان هنية بخلاف رفاقه في القائمة السوداء مسؤولاً عن إدارة المفاوضات لصفقة المخطوفين، ينبغي التقدير بأن هذا الدور منحه نوعاً من الحصانة. كان على بؤرة الاستهداف طوال العشرة أشهر من الحرب، لكن ليس الأول في الطابور. وطالما لم يكن واضحاً بأي شكل ستؤثر تصفية رئيس المكتب السياسي لحماس على استمرار الاتصالات وعلى خطوات أخرى في المجال، بقي هنية على قيد الحياة.
وحسب بضعة مصادر مطلعة، استنتجت إسرائيل مؤخراً بأن تأثير هنية على خطوات اتخاذ القرارات في مجال المفاوضات آخذ في التضاؤل. منذ البداية، لم يكن هنية من الشخصيات المقربة من السنوار، فكيف له أن يؤثر على رئيس الذراع العسكري للمنظمة في غزة. الأزمة بين السنوار وهنية وقعت قبل أحداث 7 أكتوبر بكثير، في الانتخابات لقيادة حماس في العام 2021. صحيح أن السنوار فاز، لكنه حقق الفوز بصعوبة في معركة غير سهلة حيال رجال هنية. ولم يتردد الفائز في تصفية الحساب مع “معسكر هنية”.
منذئذ ارتفعت قوة السنوار مع تقلص قوة وتأثير واحد من كبار مسؤولي حماس الخارج، رئيس المكتب السياسي الذي يسكن في قطر. ولم يجد السنوار من الصواب إشراك هنية في خطة هجمته الإجرامية على كيبوتسات الجنوب. بعد السبت الأسود، كان هنية وسيطاً في الاتصال مع السنوار يتفاوض وينقل الرسائل، إلا أن تأثيره الحقيقي على المفاوضات طفيف منذ خطوة صفقة المخطوفين الأولى في تشرين الثاني 2023.
في الأشهر الأخيرة، وفي ظل جهد متواصل لتحقيق صفقة مخطوفين أخرى، تبينت الفجوة بين حماس الخارج وحماس غزة، بين هنية والسنوار، كانت واسعة وجوهرية. فبينما أيد هنية المنحى الذي يقترح وقف نار محدداً لستة أسابيع كمرحلة أولى من الصفقة، لم يكن السنوار مستعداً لذلك. الرسائل التي تلقاها هنية من النفق في مكان ما في قطاع غزة، كانت لا لبس فيها: ليس سوى وقف الحرب وانسحاب تام للجيش من القطاع. محاولة الولايات المتحدة وإسرائيل ممارسة الضغط على السنوار من خلال ممارسة الضغط على رفاقه الذين يسكنون في الدوحة، لم تعط ثمارها. في مرحلة ما، وافقت قطر على تهديد حماس بطرد القيادة السياسية كوسيلة “لا مفر منها”، لكن تبين أنه تهديد لا يؤثر على السنوار على الإطلاق. من ناحيته، فليطردوا إلى حيث يطردون- فإن مطالبه بإنهاء الحرب مقابل جزء من المخطوفين يبقى على حاله”.
أهداف للسنوار الأساسية كانت مختلفة عن أهداف هنية؛ فالأول معني ببقائه الشخصي ببقاء حكم حماس في قطاع غزة بقيادته، قيادة السنوار بالطبع. وعليه، فبصفة من يحتجز المخطوفين الإسرائيليين عملياً، جسدياً قضى السنوار بأنه هو وفقط هو، من يحدد سياسة المفاوضات، بينما يتلخص دور هنية أساساً في تنفيذ المهمة.
صورة الوضع هذه كانت بالتأكيد أمام ناظر من اتخذوا القرارات بالنسبة لموعد تصفية رئيس المكتب السياسي لحماس. فجدوى هنية في المفاوضات للصفقة وصلت إلى مستوى طفيف حتى العدم، وإن موقفه الأقل صقرية، مقارنة بمواقف السنوار، لم تسهم في تليين موقف الأخير. وحسب بضعة مصادر تحدثنا معها، فإن التقدير هو أن تصفية هنية لم تؤثر على السنوار، بل العكس.
أبو مازن يتنفس الصعداء
ليس محتماً أن يكون انعدام جدوى هنية للمفاوضات بشأن الصفقة هو الاعتبار الوحيد لموعد اغتياله. ثمة خطة أخرى، بعيدة المدى وذات تداعيات أكثر دراماتيكية بكثير على المنطقة كلها، فيما لو تحققت، معروفة لإسرائيل وللولايات المتحدة منذ فترة – وحتى الأربعاء من هذا الأسبوع، اعتبر هنية جزءاً منها. ويدور الحديث عن جهد معروف وطويل الأمد من جانب الصين لتصبح عاملاً سياسياً واقتصادياً كبيراً وسائداً ينافس الولايات المتحدة. أحد الأهداف التي وقعتها الصين نفسها، في الطريق للهيمنة العالمية المنشودة، هي إيجاد حل للشرق الأوسط، فيما أن استقراره يخدمها. وذلك لأن استقرار الشرق الأوسط، كما تراه الصين، سيساعد إيران، الشريك الكبر لبكين، للخروج من عزلتها السياسية والاقتصادية وجمع القوة والمال.
كجزء من تحقيق الهدف الكبير هذا، توسطت الصين السنة الماضية بين إيران والسعودية، بل وأعلنت عن اتفاق المصالحة التاريخية. مؤخراً، كخطوة أخرى في صالح تحسين مكانة إيران، بدأت الصين تهتم بالتدخل في المسألة الفلسطينية، بالطبع، في صالح شريكتها الطيبة طهران. ومثل محادثات المصالحة التي أجرتها بين إيران والسعودية، أجرت بكين مؤخراً جولة اتصالات بين 14 فصيلاً فلسطينياً، فيما الهدف المركزي هو المصالحة بين فتح وحماس. بل وسارعت الصين لتعلن عن تحقيق هذه المصالحة التاريخية (مع أنهم في رام الله أوضحوا بأن هذه أساساً علاقات عامة للصين، وأن الفجوة بين ما يراد وما هو ممكن لم تتقلص بالضبط).
بالنسبة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فإن هذه المصالحة وإقامة جسم فلسطيني سلطوي موحد، هو آخر ما ينبغي حدوثه؛ فالتداعيات ستكون سريعة وواضحة جداً إزاء أبو مازن ورجاله: سيطرة تامة لحماس على السلطة. كانت إيران وحماس تحلمان بتحقيق الخطة الصينية، للسبب ذاته بالضبط. حسب تقديرات إسرائيلية، فإن خطة السيطرة على السلطة الفلسطينية كانت جزءاً من الخطة الإيرانية لصفقة تتحقق بين إسرائيل وحماس.
لم يكن هنية وحده هناك: فالأسياد الإيرانيون وقفوا من خلف موقفه اللين، ظاهراً (مقارنة بالموقف الصقري للسنوار) للوصول إلى تفاهمات مع إسرائيل والتوقيع على صفقة بطيئة وطويلة الأمد. حسب التقديرات، كانت الخطة لاستغلال الصفقة التي تتحدث عن وقف نار طويل يمنح حماس (وإيران) زمناً وهدوءاً – ليس فقط لأجل ضمان حكم حماس في غزة، بل وأيضاً للدفع بمشروع سيطرة حماس على السلطة الفلسطينية. ليس أي شخص آخر غير هنية، الشخصية المحبوبة في أوساط الفلسطينيين في الضفة يعتبر مرشحاً جيداً ومتفقاً عليه ليكون على رأس السلطة الفلسطينية دون أن يصطدم بمعارضة شديدة من هذا الفصيل أو ذاك.
تصفية هنية بالتأكيد شوشت الخطة الإيرانية لليوم التالي في غزة ورام الله. وثمة افتراض بأن طهران لم تتخل عن هذه الخطة، باستثناء أن هذه ستستغرق الآن زمناً إلى أن يتوفر مرشح آخر، معروف ومتفق عليه مثل هنية، لمحاولة دفعه قدماً بديلاً سلطوياً في السلطة الفلسطينية.
آنا ريفا برسكي
معاريف 2/8/2024